
عصر النهضة في فرنسا
النهضة في فرنسا، كالنهضة في إيطاليا، استهدفت التخلص من هيمنة رجال الكهنوت، الذين بلغ بهم الطغيان والإصرار على الاحتفاظ بسلطانهم بكل ما يملكون من وسائل وأساليب الكبت والإرهاب، أن كانوا يأخذون على من يريد الانتماء إلى سلك الرهبنة، تعهدا بأن يظل جاهلاً، فليس من حقه أن يتعلم أو أن يتطلع إلى أن يفهم من الحياة سوى ما يريدون هم أن يتعلمه من الخرافات والأساطير.
ولذلك فإننا نجد أديب عصر النهضة في فرنسا يتجه اتجاهاً إنسانياً وينزع نزعة ذاتية فهو لا يعني بما تركته العصور الوسطى من الخرافات والأساطير والمعتقدات الباطلة وإنما يعني بالإنسان على الأرض.. والإنسان في تعامله مع الحياة بكل ما فيها من حوافز وما تتطلبه من حركة وانطلاق.
ومن أولئك الأدباء الذين شهدتهم فرنسا في فجر عصر النهضة ( فرانسوا دي فيون) الذي ولد لأبوين فقيرين لم يكن لهما حظ من التعليم .. مات أبوه وهو ما يزال في مرحلة اليفع، فكفلته أمه وهي شابة أرهقتها الفاقة والعجز، حين كانت باريس تئن من فقر بشع مخيف، انعدم معه القوت، في الريف الضامر، فحصد الجوع أرواح المئات والألوف من الفرنسيين ولم تر الأم بدا من أن تلجأ بابنها إلى رجل كان أستاذاً للقانون في الجامعة هو ( جيروم دي فيون) وكانت له بالأسرة صلة قرابة بعيدة .. وقد أشفق الأستاذ الكبير على الطفل الهزيل فاحتضنه وتبناه، وبلغ من عطفه عليه إن كان يقرأ له القصص وقصائد الشعر في اللغتين اللاتينية والإغريقية، ولما رأى منه ما يبشر بأنه سيكون تلميذاً صالحا سجله طالبا في الجامعة وأطلق عليه اسمه ولقبه، فكان (فرانسوادي فيون).
واستطاع هذا التلميذ ، أن ينال درجة البكالوريوس في الآداب، ولكن سرعان ما انحرف وساءت تصرفاته وانطلق في أنفاق الانحراف الخطرة، فارتكب أنواعاً من الجرائم، ظل يسجن من أجلها ثم يطلق سراحه مرة بعد الأخرى، وكأنما كان لهذه الحياة المضطربة بكل ما فيها من بؤس وشقاء، وشرور وأثام، أثرها في أعماله الأدبية التي ظل يوالي إنتاجها في كل الظروف التعسة التي عاشها، فإذا به يترك أعمالاً أدبية يجمع النقاد على أنها الطلائع الأولى لأدب عصر النهضة في فرنسا، رغم ما يظهر فيها من أثر الانحراف والاستهتار، ومن هذه الأعمال قصيدته التي سماها ( العهد الأكبر) وهي تتألف من مئة وثلاث وسبعين مقطوعة مثمنة الأبيات وكل بيت يتألف من ثمانية مقاطع .. ويبدو أن أجزاء من هذه القصيدة كتبها الشاعر في شيخوخته إذ نسمعه يقول:
لقد مضى الشباب ، وخلفني في عرض الطريق
طار منى الجسم والعقل شعاعاً
وبت حزيناً واهياً.. وحيداً بلا رفيق
وتبدد ما كنت أملك .. أرضا ومتاعاً
وانفض عنى ذوو القربى تباعا
انكروني.. وابتعدوا ... يؤثرون عني بعدا وانقطاعا
ولم يبق من مالي قليل أو كثير..
ونراه يتحسر على أيام الشباب ، التي يعترف بأنه منحرفا عن طريق الصواب، فيندم ويدون توبته على ما اقترف ، مع سيرته في تلك الأيام فيقول:
لو كنت - وا أسفاه – أيام الشباب
واصلت دراستي وأشبعت ظمأي إلى الحكمة
ولم أنحرف عن طريق الصواب
لنعمت اليوم بالدفء في شيخوختي
ولكن، كالطير السجين كانت فعلتي
فررت من معهد الدراسة هارباً
وها أنذا أدون فوق القرطاس سيرتي
يوشك قلبي أن يتحطم نادماً تائباً
ويقول من أرخوا لحياة الشاعر، إنه ما كاد يفرغ من كتابة قصيدته أو ملحمته الذاتية، حتى أطبقت عليه أبواب السجن بتهمة قتله قسيساً، وحكم عليه بالموت شنقاً، فأستأنف الحكم وذكر المحامون قضاته بأنه الشاعر الذي كتب تلك القصائد الرائعة في تمجيد الوطن والحث على الدفاع عنه والتضحية والفداء في سبيله .. فاستبدل حكم الموت بحكم النفي لمدة عشر سنوات.
ولا يقول لنا المؤرخون، أين كان هذا المنفى ؟ ولا يذكرون شيئا عن نهايته، والأرجح أنه مات في منفاه في عام 1485م، ونسج خيال الناس عن حياته، وعن أيامه في منفاه قصصاً تشبه الأساطير، كونت له شخصية روائية استفاد منها رابيليه، وهو الذي يعكس لنا صورة صادقة لأدب عصر النهضة في فرنسا، بكل حوافز الحرية والانطلاق التي استيقظت في الآداب والعلوم والفنون بعد سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين.
المرجع:
كتاب جسور إلى القمة طبعة أولى 1981م
ص ص : 343-341