
ماذا تعرف عن مارتن لوثر ؟
ولد مارتن لوثر في قرية ثورينجيا بمقاطعة سكسونيا من أبوين يعملان في الفلاحة، وعاش في حداثة سنه في بيئة انتشرت فيها الخرافات الدينية والمعتقدات الزائفة التي صورت المسيح في صورة المنتقم الجبار الذي يتوعد الناس بأقصى أنواع التعذيب والعقاب في الآخرة.
فتسلط على مارتن الخوف وتملكه القلق والإحساس بالرهبة من الانتقام الإلهي، ولم تقنع نفسه بالوسائل التي كانت تقدمها الكنيسة لتهدئة عذابه النفسي.
عني أبواه بتعليمه فأرسلاه إلى المدرسة، ثم إلى جامعة إرفورت لدراسة القانون، إلا أنه بما تسلط عليه من خوف وقلق ديني قرر عام 1505م أن ينخرط في سلك الرهبنة لعل في ذلك نجاة له من خطاياه وخلاص له من ذنوبه، ودخل دير أوغسطين حيث انكب على الصلاة والتقشيف وتعذيب النفس أملاً في الوصول إلى رحمة الله وعفوه، ورسم كاهنا في عام 1507م .
وفي الوقت نفسه كان يدرس علم اللاهوت حتى نال شهادة الدكتوراه واستدعى للتدريس في جامعة فتنبرج بمقاطعة سكونيا سنة 1508م حيث لمع اسمه والتف حوله الرواد من تلاميذه المعجبين بآرائه وتأملاته، ولا سيما في المسألة التي كانت تشغل باله، مسألة (الخلاص) والتطهر من الخطايا.
وفي عام 1510 م زار روما، واطلع بنفسه على مفاسد البابوية. فازدادت شكوكه وعظم ارتيابه. فظل يفحص ويتأمل حتى اهتدى إلى العقيدة التي بعثتت في نفسه الهدوء والرضا والطمأنينة. وتتلخص نظريته في أن الإيمان المطلق برحمة الله يكفل النجاة من عقابه، وأن الصلاة والعبادة بجميع طقوسها وأشكالها ليست كافية للخلاص من الخطايا، وإنما يتخلص الإنسان من خطاياه بإسداء الحمد والشكر من قلب طاهر سليم إلى العلي القدير.
ففي عام 1517م جاء إلى ألمانيا الراهب تتزل ليوزع صكوك الغفران، فأثار ذلك مارتن لوثر، ورأى أن يعلن احتجاجه علنا،ً وانتهز فرصة اجتماع الناس على عادتهم في كنيسة فتنبرج في أول نوفمبر من كل عام وعلق على باب الكنيسة احتجاجاً طويلا يشتمل على 95 مادة ضد صكوك الغفران، وأعلن في وثيقته عقيدة التبرير بالإيمان، وأن الغفران رهن برحمة الله وحدها، وأن البابا لا يستطيع التدخل في غفران الذنوب، ثم دعا لوثر كل من يشاء من العلماء لمناقشة الحجج التي ساقها تأكيداً لمذهبه.
وفي أثناء جداله مع يوحنا تتزل وغيره من مؤيدي الكنيسة تعرض لوثر بالنقد اللاذع لنظام الكنيسة ، وصرح بأن الكتاب المقدس وحده هو القانون الذي يرجع إليه ويعتمد عليه في تفسير العقائد وفي جميع المسائل المختلف عليبها.
وقد لاقت آراء لوثر رضاء الكثيرين، والتف حوله أتباع متحمسون في ألمانيا وهم أولئك الساخطون على تصرفات الكنيسة في روما وتحكم البابا في رقاب العباد وادعاء بأنه واسطة الغفران عند الله.
وفي عامي 1519 و1520م عبأ لوثر الرأي العام بسلسلة من الكتابات الدينية التي ضمنها تفسير العقيدة الجديدة وأوضح أن ادعاء الأكليروس بأنهم أصحاب الكلمة الأخيرة وأنهم يختلفون عن عامة الناس محض ادعاء كاذب، وأن على الناس أن يبحثوا عن الحقيقة بأنفسهم في الكتاب المقدس.
أجابت الكنيسة على حركة لوثر بأن أصدر البابا ليو العاشر قرار الحرمان من الكنيسة ضد لوثر (ديسمبر 1520م) وكان رد مارتن أن أحرق قرار البابا علانية وبصورة رسمية أمام الناس في ساحة وتنبرج. وبذلك انقطعت كل صلة بين لوثر والكنيسة، وتفاقم الأمر حتى أن البابا طلب من الإمبراطور شارل الخامس أن يلقى القبض عليه وقمع حركته وتنفيذ قرار الحرمان الصادر ضده باعتباره مارقا خارجا على المسيحية.
واستدعى مارثن لوثر للمثول أمام مجلس يمثل الإمبراطورية في مدينة فورمس لمحاكمته (يناير 1521م) ولما ناقشه مجمع فورمس في آرائه أصر على كل كلمة فاه بها أو كتبها من قبل، وعندئذ اعتبر خارجاً على القانون وحكم عليه بإهدار دمه وحرمانه من الحقوق المدنية في الإمبراطورية.
إلا أن فردريك أمير سكسونيا وآخرين من أمراء شمالي ألمانيا وضعوه تحت حمايتهم، ولجأ لوثر إلى قلعة حصينة تحت حماية فردريك، وذلك نجا من العقوبة وأقام هناك بمعزل عن الناس لمدة عام ترجم أثناءه الإنجيل إلى اللغة الألمانية، وكان لهذه الترجمة أثر كبير في إحياء الأدب الألماني ، وسهل على العامة فهم معالي الكتاب المقدس بعد أن كان التفسير وقعا على رجال الدين.
اضطر شارل الخامس إلى مغادرة ألمانيا لمعالجة بعض الشئون العاجلة من إسبانيا إلا أن ثورة الإصلاح الديني لم تتوقف واكتسحت اللوثرية – أي حركة المعارضة للكنيسة الرومانية – معظم الطبقات في ألمانيا.
ثم انفجرت تلك الثورة في صور شتى تبعا للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعيشها ألمانيا في ذلك الحين، حيث رأت بعض الطبقات في حركة لوثر سبيلا لتحقيق ما كانت تطمع فيه من إصلاح أحوالها.
حرب الفرسان:
كان الفرسان يكونون طبقة تختلف كل الاختلاف عن بقية أفراد الشعب ، فقد كان الفارس يمتلك إقطاعية صغيرة من الأرض يتوسطها قصره المشيد على هيئة معقل أو قلعة، ولا يعترفون بالسيادة إلا للإمبراطور نفسه، ولم يكن لأحدهم مقعد في الديت الألماني، ومن هناكان عليهم أن يعتمدوا على قوتهم وتضامنهم لكي يحتفظوا بمراكزهم ضد أمراء الولايات من جهة، وضد الإمبراطورية من جهة أخرى. ولكنهم في نهاية العصور الوسطى كانوا قد فقدوا ما كان لهم من هيبة وسلطان بعد انحلال العهد الإقطاعي، وقد دفعهم سوء حالهم إلى التعويض عما وصلوا إليه بمحاولة إظهار القوة والبطش، فكان بعضهم يهاجم أراضي الفلاحين لنهب محصولاتها ، أو يبتز الأموال من التجار.
فلما ظهرت الحركة اللوثرية، رأوا انتهازها كفرصة لاسترداد نفوذهم وثرائهم عن طريق ما نادى به لوثر من تحرير الكنيسة من أملاكها في ألمانيا.
لذلك قاموا بثورة عارمة مستغلين الإصلاح الديني فهاجموكا الكنائس والأديرة ودمروا ماكان بها من تماثيل ونفائس وطردوا الرهبان من الأديرة.
وكان أبرز الفرسان الثائرين أولرخ فون هتن الذي تزعم حركة التأييد القومي لمارتن لوثر ضد البابا، باعتبار البابا غريبا عن الوطن يبتز الأموال من ألماني بدون وجه حق. وفي الوقت نفسه اتخذ الفرسان تلك الثورة وسيلة أخرى للتخلص من سلطان أعدائهم من الأمراء.
وقد ساعد هَتِنْ في حركته فارس شهور آخر اسمه فزانز فون سكنجن وهو الذي بدأ حرب الفرسان عندما نشب الخلاف بينه وبين أحد رؤساء الأساقفة، وكان من الطبيعي أن يهب الأمراء لمساندة الأسقف، ولذلك لم يقو سكنجي على الصمود أما أسلحة الأمراءا لحديثة، وهزم ثم قتل تحت أنقاض قلعته، واضطر الفارس الآخر هتن إلى الفرار إلى سويسرا حيث توفي بعد فترة وجيزة (1523م).
وفشلت حركة الفرسان بعد أن تمكن الأمراء من دك حصونهم فخسروا الحرب وحرموا من امتيازاتهم السياسية التي تبقت لهم، واستبعدوا منذ هزيمتهم كعامل هام في الحياة الألمانية.
ثورة الفلاحين 1524م:
كانت طبقة الفلاحين في ألمانيا تعاني أشد المعاناة من أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، فهم يرزحون تحت أعباء ثقيلة من حياة السخرة وفرض الضرائب وما كان الأمراء ورجال الدين والأسياد الإقطاعيون يطالبونهم به من عمل في أرضهم ومطالب أخرى مالية تحرمهم من ثمار كدهم وعرقهم. وكانوا محرومين من الحقوق التي يتمتع بها الفرد العادي كصيد الأسماك والحيوان.
جاءت الحركة اللوثرية في وقت تفاقمت منه روح التذمر والسخط بين الفلاحين ضد السلطات القائمة كلها من زمنية ودينية، ولما كان لوثر ينادي بحرية الإنسان ، اعتقد الفلاحون أن الأوان قد آن لاستغلال مبادئه في الثورة على الأوضاع الراهنة والمطالبة بالتخلص من عبودية الأرض وتحديد الخدمات الإقطاعية المفروضة عليهم لأمراء الإقطاع، وتخفيف ضريبة العشور التي تؤدي للكنيسة، ومنحهم الحق في اختيار رجل الدين في كل مجتمع من مجتمعاتهم.
وتحديد الضرائب والخدمات التي تؤدي لأمراءا لإقطاع، وحق الصيد في الأنهار التي تمر في الأرض التي يزرعونها وفي الغابات المحيطة بهم، وتحديد إيجارات الأراضي الزراعية تحديدا عادلا.
وانتهز أحد زعماء الإصلاح " توماس مُنْزِرْ" وكان حاكماً لإحدى المدن – هياج الفلاحين ضد السلطات القائمة وتصدى لزعامة الثورة، ولكن قيامه للثورة لم تكن إجماعية ولا حازمة، وفلت الزمام من يده.
فقد عمدت عناصر كثيرة إلى التطرف في مبادئ الثورة حتى طالبت بشيوعية الملكية وتغالووا في أعمال العنف والتقتيل وقابل الأمراء والنبلاء تلك الثورة بمثلها في ارتكاب الوحشية والتعذيب في حق من تصل إليهم أيديهم من الثوار، وتكاتف الأمراء وجميع الفرسان مع القوات الإمبراطورية في تحطيم تلك الثورة، فأخمدوها بدون رحمة ولا شفقة. وقتلوا من الفلاحين عشرات الألوف، وقد ألقت السلطات القبض على زعماء الثورة وعذبتهم ثم أعدمتهم.
انتهت ثورة الفلاحين في عام 1525م ولم تجن طبقة الفلاحين منها إلا الدمار، وعادت إلى حياتها الأولى من الذل والهوان.