بلاغة اليوم: القوة الخفية للغة العربية في الإقناع الحديث.

بلاغة اليوم: القوة الخفية للغة العربية في الإقناع الحديث.

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

بلاغة اليوم: القوة الخفية للغة العربية في الإقناع الحديث

image about بلاغة اليوم: القوة الخفية للغة العربية في الإقناع الحديث.

 إذا كانت الدراسات التي قامت حول الإعجاز القرآني قد أثبتت تفوق اللغة العربية على نفسها، فإن ذلك يدعونا إلى معاودة النظر في بلاغة هذه اللغة، مرات ومرات حتى تمكنها من أداء رسالتها المنوطة بها، بالكشف عن توظيف قيمها في دراسة النصوص الأدبية المختلفة.

ولسنا ندعي أن قيم البلاغة العربية قد أحاطت بكل شيء في تبيان إعجاز القرآن، فلقد كان القرآن الكريم هو النموذج الذي تحاول البلاغة التسامى إليه، كما أن هذه القيم لم تحط بكل شيء في مجال الدراسة الفنية للنصوص المختلفة حسب أجناسها الأدبية المتباينة، لكنها يمكن أن تسهم في هذه المجالات كلها بالشيء الكثير، لا سيما إذا تناولت هذه القيم بالدراسة أقلام واعية مخلصة لإسلامها وعروبتها، لتجلو عنها ما علق بها من غبار الزمن وادعاءات من لم يؤت حظاً من الصبر والإدراك المنصف لهذا اللون من التراث.

ويمكن أن نشير هنا إلى بعض المجالات التي لو وظفت فيها قيم البلاغة العربية لكشف لنا هذا التوظيف عن قيمتها المتجددة في الإبداع .. والخلق الفني.

وفي مجال النقد الأدبي اليوم تتردد أصداء النظرية البنائية التي تعتمد – فيما تعتمد – على إدراك العلاقات بين مكونات العمل الفني، وتتبع ما يقيمه الأديب من أنظمة داخل هذا العمل، واستثمار لكثير من خصائص الدراسات الصوتية وبنية الكلمة، وكان ذلك بهدف الوصول إلى المعنى الأساسي، وما يوحى به النص من معان إضافية أو ثانوية أو هامشية ، وما يمكن أن يترتب على ذلك من مستويات لمعنى النص الأدبي ذاته .. قد تثريه وتخصبه.

ونعتقد هنا أن علم المعاني بمباحثه يمكن أن يساهم في الكشف عن كثير من المعاني الإضافية للنصوص المختلفة ، بإدراك جانب من العلاقات الداخلية في النص الأدبي عند ما توظف مباحثه كأنواع الخبر، فتتباين درجات المعنى وتأكيده نتيجة كل لون من ألوان الخبر، حيث تختلف الصياغة باختلاف المؤكدات التي تتصل بالعبارة.

إن قيمة التقديم أو التأخير لبعض الكلمات في التراكيب المختلفة مهمة حيث تتكشف الدلالة من خلال ذلك التقديم أو التأخير، عندما يصبح ظاهرة عامة يلجأ إليها الأديب للتأثير بفكرته خلال عمله الأدبي كله، وفي ضوء وحدته الشاملة.

وليس التعريف أو التنكير وما يكشف عنه من عموم أو خصوص، وتعظيم أو تحقير، وتكثير أو تقليل، إلا سبيلاً  من سبل الكشف عن المعنى وإضاءة النص من داخله، لا سيما إذا عمقنا دلالات هذه الظواهر خلال النص كله، لتصور الأنظمة التعبيرية للعلاقات بين الكلمات التي يمكن أن تكونها هذه الظاهرة البلاغية...

ونشير هنا إلى أن بعض كتاب القصة أو المسرحية قد يوظف شخصيات معينة في عمله الفني ويعرفها بالعلمية التي تجعلها قرينة بدور معين يسهم في بناء هذا العمل وتطوره، والأمثلة كثيرة على ذلك، ففي مسرحية نعمان عاشور " عائلة الدوغري" ، نجد شخصية " عم على الطواف" الذي يرمز اسمه " الطواف" إلى مهنته حيث يقضى مصالح الأسرة طوافاً كل يوم بالسوق، ومن خلال طوافه هذا وهو حافي القدمين يعكس الكاتب عليه تطلعات طبقة الكادحين المحرومين في مجتمعه، والتي بها يمثل شريحة إنسانية في هذا المجتمع، يستهدف الكاتب لفت النظر إليها، وتحقيق الرعاية الاجتماعية والإنسانية لها، بل إن الآداب الأجنبية لتولى هذه الوسيلة الفنية عناية خاصة في مجال النقد الأدبي، فهناك مثلا كتاب" روائع التراجيديا في أدب الغرب" لكينث بروكسي، يضم مجموعة مقالات تعتمد – فيما تعتمد عليه – في التحليل الفني على هذه الوسيلة، فتجد كاتبا يحلل مسرحية " أديب" يعمد إلى الربط بين مدلول هذا الاسم المعرف بالعلمية، وبين دوره في هذه المسرحية حتى ليتجلى لنا أهمية أوديب بهذا المدلول اللغوي المستفاد من تعريفه عمادا لهذه المسرحية ونموها وتطورها.

وما القصر إلا سبيلاً آخر من سبل الكشف عن المعاني، بما له من دلالة في جلاء التأكيد على قضية معينة قد تشغل الأديب خلال إبداعه لنص من النصوص مسرحية أو قصة أو قصيدة أو أي فن آخر من فنون الأدب.

ويمكن أن تتجلى قيمة الإيجاز والإطناب بأنواعهما في تبين مستويات المعنى، عندما نتتبع أثرهما خلال النص كله، وما يترتب على ذلك من تفاوت في الدلالة لاستخدامه تراكيب معينة دون غيرها، وإيجاد علاقات بينها كالتماثل أو التخالف أو المفارقة ، تتمدد خلال النص كله كاشفة عن أهداف الأديب الإنسانية التي يتغياها من وراء عمله الفني مهما كان جنسه الأدبي.

ومجالات الحوار في المسرحية أو القصة – وكذلك السرد في الأخيرة – من أخصب المجالات التي يمكن أن تستثمر في دراستها هذه القيم البلاغية بشرط ألا يقف المتلقى عند أثرها الموضعي في التركيب، بل لا بد من تعميق ذلك على ا متداد العمل الفني كله.

وليست صياغة القصيدة الشعرية، وجلاء علاقات بنائها إلا مجالاً خصبا لتوظيف القيم السابقة التي أشرنا إليها – وغيرها من قيم البلاغة العربية – فيتكشف لنا ما يتغياه الأديب من معنى بمستوياته، وما يربطه بالواقع المعيش من علاقات على أي مستوى من مستويات الحياة فردياً أو اجتماعياً أو إنسانياً، كماتتضح عواطفه من خلال هذه الدراسة الكلية للنص.

وللصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية دور هام في مجال الإبراز الجمالي للفكرة، ومستويات دلالاتها، وهي من نقط الالتقاء الهامة بين البلاغة والنقد كما تعوول عليها الدراسات النقدية الحديثة في مجال الصورة الأدبية، خاصة إذاتجاوزنا الفكرة التقليدية حول الصور البيانية من حيث التركيز على أثرها الموضعي إلى استجلاء العلاقات الكلية بين هذه الصور، وإبراز مدى إسهامها متعاونة في الكشف عن بناء النص وقيمته الفنية والأثر العميق والعريض لذلك في المتلقى.

وبصورة عامة يمكن أن يكون المجاز – وهو قاسم مشترك بين كثير من اللغات أفسح السبل لتحليق المبدعين، حيث تتسع اللغة من خلال مجازاتها لكل التصورات المعينة على إقامة بناء فني ممتع خصب فسيح الدلالة، يتشكل حسب متطلبات الجنس الأدبي الذي يبتغيه المبدع، وما يثقفه من فروق بنائية في هذا المجال.

وبرغم ما يقال عن البديع وشكلياته، وتكلفاته، وما ينوء به تاريخه الطويل، فإنه سوف يظل، لما يستخدم منه استخداماً فنياً واعيا، أثر محمود في تشكيل كثير من علاقات التماثل والتخالف، والتفارق لإنجاز البناء الفني، وعلى أساس ذلك يمكن للمبدع أن يصوغ نمو قصيدته مثلا من خلال احتكاك المتناقضات فيها كما فعل أبو العلاءا لمعرى مثلا في مطلع قصيدته:

غير مجد في ملتي واعتقادي *** نوع باك ولا ترنم شادي

كما يمكن لمبدع القصة من خلال إيجاد ألوان من التماثل والتخالف أن يسمح لحدثه بالتحدر المنطقي نحو نهايته الفنية، وكذلك في مجال المسرحية، عندما تصبح الشخوص بسلوكها وما تنطقه في الحوار من تراكيب، تكشف بتناقضاتها وتقابلاتها عن مجالات الصراع ومستوياته وصولاً إلى الحل أو النهاية الدرامية.

وليست مثل هذه التوظيفات إلا سبيلاً من سبل استخدامات قيم البلاغة العربية، التي يمكن أن نجد كثيرا منها مسهماً في أبنية الأجناس الأدبية ونقدها، ولكن عدم معرفة هذه القيم البلاغية في مصادرها ومظانها الأساسية، وما أحاط بها من تجاهل بقصد أو بغير قصد، هو الذي أدى إلى عدم معرفتها، مع أنها في الآثار الأدبية بأجناسها المختلفة، وما يدور حولها من نقد، منتشرة ذائعة بحيث لا تخفى على بصير، فهي كالهواء تقوم عليه حياتنا ولا نراه.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

938

متابعهم

617

متابعهم

6673

مقالات مشابة
-