
الكاتب الفرنسي بول بورجيه
على كثرة ما حفل به القرن التاسع عشر الميلادي، إلى الثلاثينات من القرن العشرين من انفلات الفكر وتمرده على قيود الكلاسيكية من جهة وعلى القيم والعادات والتقاليد والتراث من جهة أخرى، فإن هذه الفترة من التوثب الفكري لم تخل من الكتاب ورجال الفكر والفن الذين روعهم ما اعتبروه تدهوراً في التكوين الاجتماعي، وخطراً على مستقبل الأخلاق، ونذيراً بالتفسخ والانحلال اللذين يعودان بالإنسان إلى جاهليته الأولى، يوم كان لا يسيطر عليه ولا يحكم تصرفاته إلا الغرائز ولا يردعه عن أي تصرف حيواني إلا القوة القاهرة وحدها.
ومن هؤلاء الكتاب ، (بول بورجيه) وهو الكاتب الفرنسي الذي ولد في مدينة بفرنسا في الثاني من سبتمبر عام ألف وثمانمئة واثنين وخمسين.
وكانت أولى تجارب بول بورجيه الأدبية ديوان شعر، نشره تحت عنوان ( على شاطئ البحر) ولم يبلغ من العمر أكثر من واحد وعشرين عاماً.. ولكن آراء النقاد في باريس، أجمعت على أن ما فيه أبعد ما يكون عن روح الشعر وأغراضه وآفاقه .. وكان أهم ما أخذ عليه أن الشعر فيه أقرب إلى أن يكون تقريراً لقضايا عقلية بحتة، ولا يستطيع الشعر أن يشرق ويتألق ويهزج ويملأ النفوس طرباً وغناء، إذ طوقه المنطق والعقل، وجمدت فيه العواطف والمشاعر واشتعالات الوجدان، يمكن أن يلهم الشاعر في قصيدة من قصائده حكمة، أو حتى بريقاً أو شعاعاً لقضية من قضايا الفكر الكبرى، ولكن حتى هذا يظل إلهاماً، وومضة تشع وتنير وتستغنى عن دعمها بالحجج والبراهين .. أو ما يشبه الحجج والبراهين التي يفرغ لها العلماء وأصحاب الفكر البحت الذي لا يستهدف شيئاً سوى القضية التي يعالج بحثها وإيضاحها..
وقد أحس بورجيه واقتنع بأن الشعر ليس ميدانه، وأنه لن يكون في عداد رصفائه من شعراء فرنسا وإنجلترا في تلك الفترة الموارة بالعبقريات الكبيرة التي ما زالت تطل على حياة الفكر حتى اليوم. ولذلك فقد اتجه إلى النثر .. فكتب فصولاً في النقد الأدبي نشرت على مراحل في إحدى المجلات المتخصصة في فرنسا، تحت عنوان ( دراسات في علم النفس العصري).. وجدت من إقبال القراء عليها ما شجعه على أن يجمع هذه الفصول وأن ينشرها بين دفتي كتاب، قدر له رواج طيب نسبي، يعتبر نجاحاً في بلد كفرنسا تزدحم – في تلك الأيام – بالأكابر من الكتاب والمشاهير من جبابرة الفكر.
وفي سنة 1884م قام بول بورجيه بزيارة لإنجلترا، وأقام فيها فترة، كتب خلالها أولى رواياته بعنوان : ( ما لا يمكن إصلاحه ).. وقد لقيت الرواية حظاً طيباً من النجاح والرواج .. فانطلق يكتب الروايات التي لفتت إليه أنظار النقاد والعباقرة كتاب القصة على السواء، وهي رواية (التلميذ).. التي نجد النقاد يتحدثون عنها باعتبارها فتحاً في الرواية النفسية التي تتلاحق أحداثها ببواعث منابعها إلى الأعماق البعيدة في أغوار النفس الإنسانية، وبالنجاح الذي لقيته رواية (التلميذ) وجد بول بورجيه حوافزه إلى كتابة الرواية بنفس الأسلوب والمنحى فكتب رواياته – (قلب امرأة) و(أندريه كورنيليس) و(الدوقة الزرقاء) و(جريمة حب) و(معنى الموت).
ولم يخل القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين إلى الثلاثينات منه من الكتاب ورجال الفكر والفن، الذين صمدوا لموجة التمرد والانفلات.. وكان بور بورجيه في رواية التلميذ في طليعة الكتاب الذين امتازوا بدقة النظرة فيما سوف تنتهي إليه موجة التمرد فكانت رواية التلميذ صيحة تحذيرللشباب العصري من خطر الاعتماد المطلق على العقلانية المادية والتحلل من ضوابط القيم الروحية والإيمان.. فهي – ونعني الرواية – تصور نتائج التعاليم والأفكار المنفلتة من ضوابط الخلق والدين.. وقال بورجيه قبل وفاته في عام 1936م عن هذه الرواية بالذات أنه كتبها وهو يشعر بمسؤولية الكاتب عن مصير ومستقبل الشباب والأجيال الصاعدة. ومما يؤثر عنه أنه قال: لا يكفي أبداً أن يكون الشاب متفوقاً في حياته العامة إذا كان هذا التفوق على حساب التضحية بالأخلاق والقيم والفضائل التي حثت عليها عقائد السماء وآمن بها الفكر القادر على رؤية الحقائق ببصيرة تتخطى حواجز الأنانية والغرور في الإنسان.