
الكاتب الروائي الفرنسي الكبير : أميل زولا
لا يجد النقاد عملاً أدبياً يضارع (الحرب والسلام) لتولستوي، في اتساع الساحة والأفق اللذين تتلاحق عليهما أحداث القصة، وفي حجم وتعدد الشخصيات التي تظهر على مسرحها ومشاهدها، ولكل منها دوره الذي يبنى هيكل العمل الفني ويزوده بعناصر الفكرة التي يعالجها الكاتب.. لا يجد النقاد عملاً أدبياً يراجح (الحرب والسلام) سوى قصة (جيرمينال) لأميل زولا.
وإميل زولا، هو الكاتب الروائي الفرنسي الذي لم يعرف بأدبه وأعماله الضخمة فقط وإنما بموقفه من قضية (دريفوس) أيضاً، وبكلمته التي لا تزال تدوى في آذان الناس منذظهرت عنوانا لأول مقال كتبه دفاعاً عن دريفوس وهي (أنى اتهم)..
وهذا الكاتب الروائي صاحب قصة جيرمينال التي يراجح النقاد بينها وبين قصة (الحرب والسلام) لتولستوي، والذي تصدى للدفاع عن قضية آمن بعدالتها ، وتعرض في سبيلها إلى سخط الجماهير إلى حد اضطره إلى الهجرة إلى إنجلترا، بعد أن بلغ سخط الناس عليه حد التجمهر حول منزله ومحاولة الاعتداء عليه ، ولد في باريس عام ألف وثمانمئة وأربعين، وقضى معظم أيام طفولته وصباه في قرية ايكس بالقرب من ميناء مرسيليا، الذي كثيراً ما اختار بيئته مسرحاً لرواياته واختار من هذه البيئة شخصيات وأبطال هذه الروايات.
كان أبوه إيطالياً من أصل إغريقي، وأمه فقط هي التي كانت فرنسية صميمة، ومع أنه بلغ بأدبه الحد الذي تزعم فيه المدرسة ( الواقعية) في الأدب في القرن التاسع عشر ، فإن إميل زولا قد رسب في امتحان شهادة (الليسيه) التي تعادل التوجيهية أو ما يسمى ( البكالوريا)، فلم يجد عملاً يرتزق منه، ولم يكن ميسوراً، فواجه حياة الفاقة والعوز طيلة سنتين قضاهما في الحى اللاتيني في باريس.
وكان أول عمل ساعده على الحصول عليه أحد أصدقائه، لقاء أجر زهيد يكاد لا يؤمن له قوت اليوم، هو تغليف الكتب في إحدى دور النشر في باريس، وتجهيزها للشحن إلى الخارج، وكان عمر إميل زولا يومذاك لا يزيد عن الثانية والعشرين، ومع أن نبوغ إميل زولا، ككاتب روائي تزعم المدرسة الواقعية في الأدب الفرنسي، قد لا تكون له صلة بعمله الضئيل كعامل في دار النشر التي التحق بها، فإننا لا نستبعد أن هذا العمل على ضالته وقلة جدواه، كان عاملا مساعدا في توجيه كاتب المستقبل الذي يقول النقاد أن تكوين ذوقه الأدبي قد اعتمد على أعلام فرنسا من كبار أدبائها في القرن التاسع عشر الميلادي، من أمثال جان جاك روسو، وفيكتور هوجو، والفونس دي لامارتين .. ولا بد لنا أن نفترض أنه قد انكب على قراءة ما فاضت به قرائح هؤلاء الكبار، قبل أن ينشر أول عمل أدبي له، وهو مجموعة من الشعر ظهر فيها أثر المدرسة الرومانسية التي كانت تسود أوروبا حينذاك، وليس في هذا العمل ما يلمح إلى اتجاهه الواقعي الذي عرف فيما بعد.
وبعد مرحلة تأثره بالرومانسيين بدأ زولا، مرحلته مع أونوريه دي بلزاك، وفلوبيرت، وحين نشر ثاني أعماله الأدبية بعنوان ( حكايات إلى نينون) ، في عام 1864م استلفت أنظار بعض النقاد، بما تلامح في هذه الحكايات من اتجاهه الجديد.. إلى الواقعية في الأدب، وهي المدرسة التي نجد بوادر نشأتها عند بلزاك وفلوبيرت، ولكنا نجدها تتبلور، وتتأكد لها الملامح والسمات، فيما أخذ ينشره زولا من مقالات وقصص، وفيما يفضى به من آراء تتناقلها صحف باريس ومجلاتها في تلك الأيام.
والمدرسة الواقعية (الطبيعية) تستهدف نوعاً من التصوير الفوتوغرافي لواقع الحياة، لا يتحاشى أو يعف عن الإيغال في أدق التفاصيل حتى لو بلغ الأمر بتصويرها حد إثارة التقزز والاشمئزاز، وفي نوع من الصورة في التشريح لا يبالي بما يتكشف عنه من قبح وشوه وإيلام.
ولم يقف زولاً في واقعيته عند حدودها على ما فيها من بشاعة وتجريح تستنكره المدرسة الرومانسية، وإنما ذهب إلى أبعد كثيراً مما ذهب إليه فلوبيرت ويلزاك .. إذ بدأ يدعو إلى الرواية التي تعكس نتائج البحث والملاحظة، بنفس الدقة التي يتوخاها عالم الأحياء أو النبات في معمله.. فالشخصيات في الرواية الواقعية يجب أن تتوفر لها الدوافع االنفسية. وأن تعكس أثر المجتمع على حياتها وتصرفاتها، وأن تتأثر سلباً أو إيجاباً بضغوط القانون ورواسب التراث وعوامل الوراثة.. يجب أن توضع الشخصية في الرواية الواقعية، في بيئة يصنعها الكاتب، تعكس شريحة من المكان والزمان، وأن تتصرف بدافع من حوافزها الطبيعية المنبعثة من انفعالها الداخلي ومن تأثير البيئة عليها.
وفي هذا الإطار للرواية الواقعية كما تصوره زولا، يصبح العمل الفني دراسة لمصدر الأثر النفسي والطبيعي لمراحل تطوره . وهو في نفس الوقت دراسة لمشاكل المجتمع وما يعانيه من هذه المشاكل. وبهذا يمكن القول أن إميل زولا قد تجاوز ما كان يلتزم به فلوبيرت من توخى (فنية )البناء في الرواية، إلى احتواء النظرية التي تفرض موقفاً حقيقيا أو واقعياً، وهنا تبدو الرواية وكأنها تجهيز آلي ومادي يستبعد من عمليات البناء الدرامي المتكامل، خيال الكاتب ونزواته كما يستبعد مشاعره الذاتية وما تعكسه هذه المشاعر على مساحة العمل الفني من أضواء وظلال هي التعبير عن انطلاق الفنان.
ومع أن الرواية التي تعتمد التجربة العلمية – كما دعا إليها إميل زولا – يمكن أن تعالج موضوعاً بعينه. وأن تخدم الكاتب كحافز يعطيه – على سبيل المثال – شخصية معروفة الوراثة والخلفية يقوم بتهيئة البيئة التي تلائمها، ثم ينسج من عناصر تكوينها نتائج مقدرة أو مقررة، فإن النظرية – ككل – تظل بعيدة عن طبيعة العمل الفني في أي بناء درامي، إذ كما يتعذر أن يكون الكاتب موضوعيا إلى الحد الي تفرضه النظرية، فإن ما قد يبذله من الجهد للبقاء في إطار هذه الموضوعية المطلقة، يمكن أن يورطه أو ينتهي به إلى (ذاتية) أكثر تطرفاً مما لو تجنب التكلف والافتعال..
وإيا كان ماظل يدور من دراسات وبحوث، حول نظرية المدرسة الواقعية في الآداب وفي الرواية على الأخص، فإنها تظل كغيرها من نظريات المدارس الأدبية عوامل مساعدة يمكن أن تمد الكاتب بعناصر التكوين والإبداع، ولكنها لا تضع الحدود الفاصلة بين نظرية وأخرى. ولا تصنع الإطار الذي يتسع للعمل الفني، ويعجز عن أن يحتوي أو ينطوي على سواه.
وانسياقاً مع نظرياته عن المدرسة الواقعية، بدأ زولا يعمل، فكتب سلسلة من الروايات كلها تلاحق التاريخ الطبيعي والاجتماعي لأسرة عاشت في عهد الإمبراطورية الثانية (من عام 1852 إلى عام 1870م) ليضيف أو ليتابع الصورة التي كان أونوريه دعى بلزاك قد قدمها عن الحياة الفرنسية أوائل القرن .. وكانت كل رواية تدور حول واحد أو أكثر من أبناء وبنات هذه الأسرة وتصور – بالإضافة إلى أثر الوراثة في حياة كل منهم – التاريخ النفسي والاجتماعي والبيولوجي للفترة التي تعيش فيها الشخصية التي تدور حولها الرواية.
وقد غطى اميل زولا بهذه السلسلة من الروايات، التي بلغت عشرين رواية تحت اسم (روجون مكارت) تاريخ الكثير من محترفي الزراعة، والتعدين وكنس الشوارع، والفن، والسياسة، والتدريس، والترفيه، وجميع الطبقات الاجتماعية سواء في باريس أو في المقاطعات الفرنسية الأخرى.
وكانت رواية (جيرمينال) التي يضعها بعض النقاد في مستوى يهبط كثيرا عن قصة الحرب والسلام لتولستوي، إحدى الروايات العشرين وقد نشرت في عام 1885م وهي تصور كفاح عمال منجم من مناجم الفحم شمال فرنسا..
وتمتاز جيرمينال بتعدد المشاهد في البيئة التي اختارها الكاتب لأبطال روايته، وبالتفاصيل الدقيقة عن حياة العمال في المنجم بل وعن العمل في صناعة من الصناعات الثقيلة في أيامه وهذا إلى جانب تعدد وكثرة الشخصيات التي يعالج الكاتب مشاكلها واهتماماتها م متابعة لهدفه ولمسار القصة نحو هذا الهدف.. ويذهب بعض النقاد إلى أن جيرمينال تمتاز عن الحرب والسلام بأن الحبكة الفنية فيها أكثر دقة، والانطلاق في مسارها أقل تعقيداً وتشعباً، وبأن شخصياتها الكثيرة – رغم كثرتها – تتمايز عن بعضها البعض بخصائص تجعلك تتوقع ما يمكن أن يكون تصرفها في الأحداث على ضوء هذه الخصائص..
ولم يكتب إميل زولا رواية جيرمينال إلا بعد أن عايش عمال المناجم، واندمج فيما كان يثير سخطهم من مشاكلهم ومتاعبهم، ولتتاح له هذه المعايشة والاندماج، ومعرفة واقع أبطال قصته من هؤلاء العمال، توخى السبل إلى العمل معهم فاستطاع أن يقنع أحد رؤسائهم أن يعمل سكرتيرا له وكان عمله مع الرئيس، سبيله إلى ثقة العمال به فلم يكونوا يخفون عنه شيئاً من أسرارهم وأسرار مهنتهم وعلاقاتهم وأحوالهم الشخصية في العمل، وفي غيره من مضطربهم في الحياة، فكان طبيعيا أن نرى في جيرمينال الصورة أو صورا بانورامية حين نشاهد فيها الساحة الكاملة للشخصيات والأحداث فإننا نرى ما يكمن في تلك الزاوية أو تلك من تناقض ا لأحداث والشخصيات والانفعالات وردود فعلها على الشخصيات.
والعقدة التي يبدو أن إميل زولا حرص على معالجتها في جيرمينال هي خطر الآلة على اليد العاملة .. الآلة التي تستطيع أن تحل محل العامل ومحل عدد من العمال وما يترتب على تعطيل هؤلاء العمال من ماس وارزاء، وهذا في إطار واسع يتابع فيه مشكلة الفرد ، والأسرة، والمجتمع، حيث نرى الصراع بين السجايا والخصائص، وبين الفضائل والعيوب .. بين الطيبة .. والخبث، والشجاعة والجبن، وبين الإخلاص ، والخيانة وبين التضحية والأثرة . وبين الحب والبغضاء..
ومع أن إميل زولا كان في جيرمينال خاصة، وفي رواياته الأخرى عموما يكتب بضمير المصلح الاجتماعي وحوافزه، فقد كان أيضاً فناناً، بل يمكن القول أن الفنان في شخصيته قد تفوق على المصلح إذ كانت معالجته للمأساة واحتدام مشاعره نحوها، لا تصرفه عن فنية اللمسة، وحسن اختيار الألوان والظلال، ودقة توخي الزوايا الحرجة التي يبدع في الخروج منها إبداعه في اقتحامها والإيغال في اختناقها..
كانت جيرمينال كجميع المآسي والملامح بانوراما رائعة متكاملة، انتهت كما تنتهي أمثالها بالأمل المتفائل، وبالتطلع إلى الأفضل، حيث نرى زعيم هؤلاء العمال في منجم الفحم، يجتر أحزانه، ويلعق جراحه. ولكنه ينظر إلى طائفته التي أن له أن يبتعد عنها .. إلى أولئك العمال الذين كان يرأسهم ويتزعم حل مشاكلهم ، باعتبارهم ( بذوراً في الأرض) ما تلبث أن تنبت وأن تتشقق عنها هذه الأرض إطلالة الربيع..
من أشهر ما يعلق بالأذهان من روايات زولا إلى جانب (جيرمينال) رواية (نانا) التي نقلتها بعض دور النشر إلى العربية بكثير من الاختصار وزاده ضعف القدرة على الترجمة تشويها وابتذالا، ولكن ما لا ينساه المثقفون لأميل زولا، هو ذلك الموقف الذي اتخذه لنفسه من قضية دريفوس، حيث تصدى للدفاع عن الظلم الذي لحق به، في وجه السلطة التي أدانته وحكمت عليه بالنفي إلى إحدى الجزر النائية.