
الأسلوب خاصة لغوية فردية
الأسلوب خاصة لغوية فردية
الأسلوب في اللغة يعني الطريق أو الاتجاه، ففي معجم لسان العرب:" كل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب: الطريق والوجه والمذهب. يُقال: أنتم في أسلوب سوء، وجمعه أساليب، والأسلوب: الطريق تأخذ فيه. والأسلوب: الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي، أفانين منه".
والأسلوب بمعناه الاصطلاحي: طريقة التغيير ومنحى الرجل في صياغة أدواته ووسائله التعبيرية.
فالوسائل التعبيرية هي مادة الأسلوب مهما كان نوعه، وإن هذه الوسائل تختلف بين الأديب والموسيقي والنحّات والرسام، فأدوات الموسيقى هي اللحن والنغم، وأدوات الرسام الألوان والأشكال والظلال، وأدوات الكاتب هي الألفاظ والعبارات والتراكيب.
إن أسلوب الكاتب يعني طريقة الصياغة، وشكل التعبير، ووجه نظم الألفاظ والجمل على نسق معين، ويتعامل مع الألفاظ والعبارات، ومع اللغة.
إذن الأسلوب خاصة لغوية فردية، يمثل نمطا شخصيا من أنماط التشكيل اللغوي. فاللغة التي يستخدمها الأديب في كتابته ليست هي اللغة العادية التي يصطنعها الناس، وليست هي هذه الألفاظ التي نقرؤها في تكب اللغة والمعاجم، ونتعرف على قواعدها في كتب النحو والبلاغة والأدب، بل هي لون تشكل على يدي الأديب تشكلا جديدا.
واللغة مستويان:
المستوى العادي: الذي يمثل لغة العامة من الناس، والتي يجري فيها حديثهم وحوارهم، وكتابتهم.
المستوى الأدبي (الفني): الذي هو لغة الأساليب الأدبية الجميلة التي يصطنعها الشععراء والأدباء فيما ينشئون من ألوان القول، وهذه من نتاج الفرد المبدع، وهي خصيصة فردية متميزة، تصدر عن عبقرية الأديب وموهبته، وتمثل المقدرة والكفاءة، وتدل على الفضل والتميز في مقابل اللغة العادية التي توشك أن تكون مطروحة في الطريق، ولا يتفاضل الناس في العلم بها ولا في استخدامها، فهي مبذولة مباحة للجميع.
يقول عبدالقاهر الجرجاني في غير موضع من دلائل الإعجاز على أن اللغة الأدبية صفة تختص بالمتكلم، وترجع إليه، أو علىى حد قوله:" مزية هي بالمتكلم دون واضع اللغة" فهي ليست من صنع واضع اللغة، بل هي من صنع الأديب وإبداعه.
وقد أكثر اللغويون والنقاد من الحديث عن هذين المستويين من اللغة، وتوقفوا طويلا عند الفروق التي تميز لغة العمل الأدبي من اللغة العادية التي يتداولها معظم الناس وعامتهم، وفي تراثنا اللغوي والنقدي نظرات عميقة في هذا المجال.
ولكن المسألة بعدا أعمق، لأن الحق أن أي استعمال للغة هو استعمال شخصي متفرد، يمثل نمطا خاصا من أنماط الأساليب والأشكال، وقد تنبه عبدالقاهر الجرجاني إلى ذلك وهو يتحدث عن النظم، فلاحظ أن أي تغيير في تشكيل العبارة يؤدي إلى تغيير مماثل في مضمونها ، وإن أي تغيير في المعنى يستتبعه تغيير في تشكيل العبارة وصياغتها.
ثنائية اللغة والكلام:
كان علم اللغة الحديث يفرق بين اللغة والكلام، فاللغة هي هذا النظام العام المتعارف عليه من الرموز والمصطلحات التي يتفاهم بها الناس فيما بينهم، وأما الكلام فهو طريقة أو أسلوب استخدام كل فرد ممن يستعملون اللغة لهذه الرموز والمصطلحات، أو هو العمل الفردي الذي يقوم به المرء حين يشاء التعبير عما في ذهنه.

ويعد العالم السويسري فرديناند دوسوسير رائد علم اللغة الحديث من أكثر العلماء اللغويين اهتماما بالتفريق بين اللغة والكلام في محاضرات ألقاها على تلاميذه في جنيف، ثم جمعت بعد موته في كتاب بعنوان" دروس في علم اللغة العام: Course in generale linguisticccs" ويرى أن الكلام جزء من اللغة، وهي أساسه الجوهري، وفي الوقت الذي تعد فيه حصيلة اجتماعية لملكة فردية هي ملكة الكلام؛ فإنها مجموعة من المصطلحات الضرورية التي تتخذها هيئة المجتمع بأكمله لإتاحة الفرصة أمام الأفراد لممارسة ملكاتهم.
إن اللغة بتعبير عام نظام اجتماعي مستقل يرثه الفرد عن مجتمعه ويتعلمه هذا النظام العام، وهو على الرغم من مطابقته لهذا النظام، واتفاقه معه – يختلف في تفصيلاته من فرد إلى فرد. فكما أن كل إنسان – في اتفاقه مع سائر الناس في الإنسانية ، وفي مظاهر عامة من الخَلْق والخُلق يتصف بها الجنس الإنساني ككله، وتشكل له خصائص متميزة عن المخلوقات الأخرى – له من الصفات ما يميزه من غيره من أبناء هذا الجنس نفسه: من حيث الطول والعرض ولون البشرة والذوق والعقل والطبيعة وغير هذا.
إن اللغة علامة مميزة للفرد، ومعلم هادٍ إليه. فلكل واحد معجمه الخاص. وقد يلاحظ أن هناللك كلمات أو عبارات معينة ترد على خاطره باستمرار، وتكون أشبه باللازمة اللغوية له، فهو يكثر من تردادها واستعمالها حتى تصبح دالة عليه مثلما تدل عليه أحياناً بصمات أصابعه أو كبر أنفه أو جحوظ عينيه أو غير ذلك من المظاهر الحسية البارزة.
لاحظ الناقد الأمريكي (ريتشارد . ب. بلاكمور) الذي اهتم بدراسة لغة كمنجز أن هنالك كلمات معينة يكثر منها، وتسيطر على تفكيره، وقد مضى يجمع قائمة بالكلمات التي يكثر كمنجز من استعمالها، فوجد – على سبيل المثال – أن كلمة (زهرة) هي أحبها إلى نفسه، فاستنتج أن هذه الكلمة هي المسيطرة على خياله، وعلى ضوء هذا التحليل اللغوي حدد طبيعة شعر هذا الشاعر، وبين قيمته. وفي كتابه ( ثمن العظمة: 1940م) مضى بلاكمور يعدد المرات التي استعملت فيها (إملي ديكنسون) لقظة (فسفور) وقرائنها، وتتبع المصادر التي استمدت منها ألفاظها، فوجدها في أساطير الفروسية، وشكسبير، وسكوت، والتوراة، والأناشيد الدينية، وتتبع مختلف الاستعمالات التي وردت فيها اثنتان من أحب الكلمات إليها وهما: (قطيفة ) و(أرجوان) . وعندما راجع شعر (لورا رايدنغ) لاحظ كيف تسيطر عليها الكلمات المنفية السلبية، مثل: غير محب، غير ناعم، لا حياة ...
إن الجهد المبذول في الأسلوب الأدبي لا يعدله الجهد المبذول في الأسلوب العادي من الكلام، فالأخير جهد طبيعي آلي، يستطيعه أي واحد من الناس؛ فملكة الكلام ملكة غريزية تولد مع الإنسان، وهي سمة فيه – على الرغم من تميزها عما عند الآخرين – ليست موطن تفاضل، ولا هي ميدان تنافس وسبق، ولكن الجهد الذي يحتاجه إنشاء أسلوب أدبي لا يستطيعه أي واحد من الناس، بل هو ملكة خاصة لا يتمتع بها إلا العباقرة والموهوبون، وهم فئة قليلة في المجتمع تتمتع بقدرات عالية، وكفاءات متميزة، ومن أجل ذلك كانت الفردية اللغوية التي يتسم بها الأسلوب الأدبي ظاهرة متميزة واضحة وضوحا شديدا.
إن صلة الكاتب بأسلوبه صلة وثيقة، فلكل أديب طريقته الخاصة في استعمال اللغة، أو له إن صح القول معجمه اللغوي الواضح. وتهتم الدراسات الأدبية الحديثة كثيرا بدراسة هذه المعاجم لهذا الأديب أو ذاك، أو لطائفة من أدباء هذا المذهب الفني أو ذاك من أجل تتبع الظواهر اللغوية المشتركة التي تطبع هذا الأسلوب، وتلمس معالمه وصفاته.