
ماذا تعرف عن الأدب الحديث؟
ماذا تعرف عن الأدب الحديث؟
إن الدعوة إلى الاستمساك بالتراث وترسم نهج السالفين ليس بدعاً في حق هذه الأمة، إن لم يكن في الحق أوكد لها من غيرها. فإن من شرائط أية نهضة حقيقية لأية أمة تقوم أولاً على الوعي بالهوية التاريخية التي يقود إليها البحث عن الذات، وتؤدي بها إلى التعرف على خصائص وسمات شخصيتها ثم ، ثانيا، الوعي بحركة التاريخ، وهو الذي يتيح للأمة التحقق من صدق انتمائها إلى أصولها، ومدى التطور أو الانحراف الذي ألم بها عبر مسيرة التاريخ بعداً أو قرباً من صفات ماضيها المجيد، وتستبين من ثم موقعها من مجاراة تقدم التاريخ، الذي ربما يكون دفع أمماً من حولها درجات في سلم الرقي والتطور، وهي ما تزال تراوح مكانها.
ولقد كان هذان العاملان وراء نهضات الأمم من ذوات الحضارة والتاريخ العريق، إبّان عهود النهضة ومراحل النقلة في تاريخها. كان ذلك سبيل دول أوروبا في مطلع عصر النهضة الحديثة، حيث أخذت تحكم انتماءها إلى ماضي الحضارة اليونانية والرومانية، رغم بعد الصلة ووهن العلائق. أما وقد تعرفت أوروبا، والعالم الإيطالي أولا، قبيل عصر النهضة على حقيقة موقعها من حركة التاريخ، مقارنة بتقدم وازدهار العالم الإسلامي من حولها، ووصلت عن طريقه إلى أصول تراثها، الذي نقله المسلمون وهذبوه وأضافوا إليه – فقد عملت جاهدة على ربط عجلتها بالفلسفات والآداب اليونانية واللاتينية، ووثقت ما وهته القرون الوسطى من ذلك.
ومن ثم سادت ( الكلاسيكية) الحديثة طيلة عصر النهضة، ترتد إلى القديم في لغته، تحييه وتستوحيه، وتطبق قواعده وفهومه حتى أواخر القرن الثامن عشر . وما يزال هذا التراث يشكل مصدرا أساسيا للتعليم والثقافة والفنون على نطاق واسع بين الشعوب.
ولقد كان اتصال اللاتينية، وقد ظلت زهاء خمسة قرون لا أدب يذكر لها، ثم ازدهر أدبها على أثر اتصالها بالأدب اليوناني شاهدا مبكراً على هذا الاستمداد من القديم وأثره في نهضتها وازدهارها.
ولقد كان أعظم تأثير للحضارة الإسلامية على أوروبا كذلك يتمثل في إيجاد الرغبة عند الأوروبيين لنفض ظلمات القرون الوسطى المظلمة، والرغبة في إكتساب العلوم، وأخذ المنهج التجريبي في البحث العلمي، وهي أمور كلها لا تمت بصلة للتراث الإغريقي ولا اللاتيني، وإنما هي تنبعث من الروح الإسلامية الأصيلة.
وفي حياة المجتمعات الإسلامية في مطلع عصر النهضة الحديثة، كان مصداق الحديث الشريف:" لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" هو طريق النهوض والانتعاش.
فكانت دعوة الإصلاح الديني للشيخ محمد بن عبدالوهاب (1115-1206هـ) تجديدا للفكر الديني، عوداً في منهجا، بالأمة إلى مصادر الشريعة الصافية، قبل أن تكدرها خلافات الفرق في القرون المتأخرة، ودعوة، في أهدافها إلى تحرير العقل مما شابه من أوضار البدعة والخرافة والمنكر من التوسل بالأولياء والنذور لهم والطواف حول أضرحتهم وقبورهم، لتحقيق الهدف الأسمى لرسالة الإسلام: الإلتجاء إلى الله مباشرة، وتعبده وفق ما شرع، على نحو ما بينته مصادر التشريع ونقله السلف الصالح.
وواكبت سلفية الإصلاح الديني في الجزيرة العربية حركة، نقول مع الفارق، سلفية موازية، تستمد من القديم من أزهى عصوره وتتخلص من رواسب القرون المتأخرة، في محاولة تحرير الأدب من البدع والخرافات الأدبية، لتعود به إلى صفائه الأول. فإذا كانت حركات الإصلاح الديني مع ملاحظة شمول تعاليم الإسلام لكل نشاطات الإنسان في الحياة، ارتقت بالناس إلى أصول التشريع الأولى في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم من السلف الصالح، فإن الحركة الأدبية، سواء تلك التي زامنت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أو تأثرتها فيما بعد، اتخذت جسراً مماثلا تخطت عبره قرون الضعف إلى عصور الازدهار الأولى، وهو ما يسمى في اصطلاح الأدب بالتقليدية الحديثة، في مقابل (كلاسيكية) أوروبا.
والحق أن القرون الثلاثة الأخيرة شهدت دلالات وعي نهضة، وكان من أبرز رجالاتها: عبدالقادر البغدادي ( 1030-1093هـ) وتعتبر موسوعته " خزانة الأدب" من أعظم مصادر الرواية في الأدب واللغة، وأكثرها أثراً في إحياء التراث.
ومحمد بن محمد مرتضى الزبيدي (1145-1205هـ) صاحب الموسوعة اللغوية الحافلة:" تاج العروس" . ومحمد بن علي الشوكاني (1173-1250هـ) صاحب " نيل الأوطار"، وكان عظيم الاعتداد بإعمال العقل وحسن بن إبراهيم الجبرتي ( 1110-1188هـ)، والد الجبرتي المؤرخ ، فقيه اشتغل بعلوم الهندسة والصنائع، ومن أشهر تلامذته الشيخ محمد بن علي الصبان.
ولم يقدر لهذه الحركات أن تؤتي ثمارها كاملة في حينها في ذلك الوقت المبكر، لما منيت به من عداء خصومها أولا، فلقد حطمت حملة نابليون وتدخل التأثيرات الأجنبية، ومناهضة بعض الحكام المحليين هذه البدايات، غير أن تأثيرها ظل يمتد ويتفاعل، رويداً رويداً. وأدت صدمة اتصال العالم العربي بالحضارة الأوروبية وعنفوانية الغزو الأجنبي، إلى إذكاء حركات الإصلاح واستمرار الدعوة إلى التولي نحو وجهة الإسلام وحضارته وتراث أهله، لكي تستعيد الأمة ذاتيتها ومقومات شخصيتها فظهرت طبقات أخرى من الوعاة بحال العصر ودعاة الإصلاح في عدد من بلدان العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري.