التسول بين الماضي والحاضر

التسول بين الماضي والحاضر

1 المراجعات

 

ظاهرة التَّسَوُّلُ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ.

 

مَدْخَلٌ

كانَ الْمُتَسَوِّلُ فِي الْمَاضِي يَجْلِسُ عِنْدَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ أَوْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، بِثِيَابٍ رَثَّةٍ وَوَجْهٍ شَاحِبٍ، يَمُدُّ يَدَهُ لِلْمَارَّةِ طَلَبًا لِلصَّدَقَةِ. كَانَ الْمَشْهَدُ مَأْلُوفًا فِي الْأَحْيَاءِ وَالْقُرَى وَالْمُدُنِ، حَتَّى أَصْبَحَ التَّسَوُّلُ جُزْءًا مِنْ صُورَةِ الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ فِي مُجْتَمَعَاتٍ كَثِيرَةٍ.

وَلَكِنْ مَعَ تَغَيُّرِ الزَّمَنِ وَبدُخُولِنَا عَصْرَ التِّكْنُولُوجْيَا، لَمْ يَخْتَفِ التَّسَوُّلُ، بَلِ ارْتَدَى قِنَاعًا جَدِيدًا وَأَكْثَرَ خَفَاءً، هُوَ التَّسَوُّلُ الْإِلِكْتِرُونِي.

 

التَّسَوُّلُ التَّقْلِيدِي: مَعَانَاةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ مِهْنَةٌ مُتَوَارَثَةٌ؟

التَّسَوُّلُ التَّقْلِيدِيُّ غَالِبًا مَا ارْتَبَطَ بِالْفَقْرِ وَالْعَجْزِ وَالْمَرَضِ. غَيْرَ أَنَّهُ تَحَوَّلَ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ إِلَى "مِهْنَةٍ" يُمَارِسُهَا أَشْخَاصٌ قَادِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ لَكِنَّهُمُ اخْتَارُوا الطَّرِيقَ السَّهْلَ لاسْتِدْرَارِ عَطْفِ النَّاسِ. وَمَعَ الزَّمَنِ، ظَهَرَتْ شَبَكَاتٌ تَسْتَغِلُّ الْأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ فِي التَّسَوُّلِ لِتَجْنِيَ الْأَمْوَالَ.

التَّسَوُّلُ الْإِلِكْتِرُونِي: نُسْخَةٌ حَدِيثَةٌ بِوَسَائِلَ رَقْمِيَّةٍ.

فِي الْعَصْرِ الرَّقْمِيِّ، لَمْ يَعُدِ الْمُتَسَوِّلُ بِحَاجَةٍ إِلَى الْجُلُوسِ فِي الشَّارِعِ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَفْتَحَ حِسَابًا عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الْاجْتِمَاعِيِّ لِيَصِلَ إِلَى آلَافِ الْأَشْخَاصِ فِي دَقَائِقَ.

بَعْضُهُمْ يَنْشُرُ قِصَصًا مُفَبْرَكَةً عَن مَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ.

وَآخَرُونَ يَنْتَحِلُونَ هُوِيَّاتِ جَمْعِيَّاتٍ خَيْرِيَّةٍ وَيَطْلُبُونَ الدَّعْمَ.

وَعَلَى مَنْصَّاتٍ مِثْلَ تِيكْتُوك، يَفْتَحُ بَعْضُهُم بُثُوثًا مُبَاشِرَةً طَوِيلَةً دُونَ أَيِّ مُحْتَوًى هَادِفٍ، مُكْتَفِينَ بِطَلَبِ الْهَدَايَا الِافْتِرَاضِيَّةِ الَّتِي تَتَحَوَّلُ لَاحِقًا إِلَى مَالٍ حَقِيقِيٍّ.

 

أَوْجُهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ

كِلَا النَّوْعَيْنِ يَعْتَمِدُ عَلَى اسْتِدْرَارِ الْعَاطِفَةِ وَاسْتِغْلَالِ طِيبَةِ النَّاسِ.

كِلَاهُمَا يُضْعِفُ قِيمَةَ الْعَمَلِ وَالِاجْتِهَادِ.

كِلَاهُمَا قَدْ يَتَحَوَّلُ إِلَى ظَاهِرَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ مُقْلِقَةٍ تُشَوِّهُ قِيَمَ التَّضَامُنِ الْحَقِيقِيِّ.

 

أَوْجُهُ الاخْتِلَافِ

التَّسَوُّلُ التَّقْلِيدِيُّ كَانَ مَحْصُورًا فِي مَكَانٍ وَزَمَانٍ مُحَدَّدَيْنِ، أَمَّا الْإِلِكْتِرُونِيُّ فَهُوَ عَابِرٌ لِلْحُدُودِ وَيَصِلُ إِلَى الْآلَافِ فِي دَقَائِقَ.

الْمُتَسَوِّلُ التَّقْلِيدِيُّ مَكْشُوفٌ لِلْعِيَانِ وَيُمْكِنُ التَّحَقُّقُ مِنْ حَالَتِهِ، بَيْنَمَا الْإِلِكْتِرُونِيُّ مُمَوَّهٌ يَصْعُبُ كَشْفُ حَقِيقَتِهِ.

موقف الدين الإسلامي من ظاهرة التسول:

 حارب الإسلام ظاهرةَ التَّسوُّل وحثّ على العمل والكسب الحلال، لما فيها من حفظٍ للكرامة الإنسانية وصونٍ للمجتمع من الفوضى. قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10]. 

دعوةً للسعي والعمل لا للكسل والاتكالية. كما روى البخاري أنّ النبي ﷺ قال:

 «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ». 

فالتسول لا يكون مشروعًا إلا للضرورة القصوى، أمّا الأصل فهو الاجتهاد في تحصيل الرزق والعمل الشريف، وبذلك يُربّي الإسلام أبناءه على الكرامة والعفّة.

 من أقوال السلف والحكماء:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: 

“لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.”

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “العملُ يزكِّي النفسَ ويُغني عن السؤال.”

قال الإمام الشافعي رحمه الله: 

“الكسْبُ الحلال أنْفَعُ للمرء من الجلوس والتسوّل.”

 

من الحكم العالمية:

“مَن طلب العلا سهر الليالي.”

“اليد العليا خير من اليد السفلى.”

“العمل شرف، والتسوّل ذلّ.”

 

نَصَائِحُ لِلْوِقَايَةِ مِنْ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ

1. التَّحَقُّقُ دَائِمًا مِنْ أَيِّ دَعْوَةٍ لِلتَّبَرُّعِ قَبْلَ إِرْسَالِ الْمَالِ.

 

2. دَعْمُ الْجَمْعِيَّاتِ الرَّسْمِيَّةِ الْمُعْتَمَدَةِ بَدَلَ الْأَفْرَادِ الْمَجْهُولِينَ.

 

3. تَرْبِيَةُ الْأَبْنَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ وَالْجِدَّ هُمَا السَّبِيلُ الْأَصِيلُ لِلرِّزْقِ.

 

4. اسْتِخْدَامُ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ بِوَعْيٍ، وَعَدَمُ الِانْجِرَارِ وَرَاءَ كُلِّ مَا يُثِيرُ الْعَاطِفَةَ.

 

5. نَشْرُ الْوَعْيِ بَيْنَ الْأَصْدِقَاءِ وَالْعَائِلَةِ بِخُطُورَةِ التَّسَوُّلِ الْإِلِكْتِرُونِيِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ.

 

خَاتِمَةٌ

التَّسَوُّلُ قَدِيمٌ بِقِدَمِ الْبَشَرِيَّةِ، لَكِنْ أَشْكَالُهُ تَتَجَدَّدُ مَعَ الزَّمَنِ. مِنْ قَارِعَةِ الطَّرِيقِ إِلَى شَاشَةِ الْهَاتِفِ، يَبْقَى الْهَدَفُ وَاحِدًا: كَسْبُ الْمَالِ بِلَا جُهْدٍ. وَهُنَا يَبْرُزُ دَوْرُنَا كَأَفْرَادٍ وَمُجْتَمَعَاتٍ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَاجَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالِاحْتِيَالِ الْمُمَوَّهِ، حَتَّى نُوَجِّهَ دَعْمَنَا لِمُسْتَحِقِّيهِ وَنُحَافِظَ عَلَى قِيَمِ الْعَطَاءِ النَّبِيلِ.

أرجو أن تكون هذه المقالة قد ألمت بكل جوانب هذا الموضوع الشائك  وإلى الملتقى في مقالات أخرى إن شاء الله.

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

33

متابعهم

55

متابعهم

11

مقالات مشابة