
موازين القوى العسكرية في القرن الحادي والعشرين: هل التفوق العدديّ لا يزال يعني الهيمنة؟
موازين القوى العسكرية في القرن الحادي والعشرين: هل التفوق العدديّ لا يزال يعني الهيمنة؟
مقدمة: نهاية عصر الأحادية القطبية
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ساد اعتقاد بأن العالم دخل عصر الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدت جيشها وتقنيتها وكثافة انتشارها العسكري بلا منافس. لكن العقدين الماضيين شهدا تحولات جذرية أعادت رسم خريطة القوى العالمية. لم يعد الحديث عن "من هو الأقوى" يسيرًا، فمعايير القوة نفسها تتغير. لم يعد عدد الدبابات والطائرات هو المحدد الوحيد للنصر، بل بات التفوق في مجالات غير تقليدية هو الفيصل. هذا المقال لا يكتفي بسرد الأرقام، بل يحلل طبيعة "التفوق" نفسه في صراع القرن.
المحور الأول: القوى التقليدية.. بين الترسانة النووية والحرب الهجينة
الولايات المتحدة الأمريكية: العملاق التقني ذو الأعباء العالمية
مكامن القوة: تمتلك الولايات المتحدة أكبر ميزانية دفاعية في العالم، تفوق إنفاق العديد من الدول مجتمعة. هذا الإنفاق يترجم إلى تفوق نوعي هائل في مجال الطيران (مقاتلات الجيل الخامس F-35 وF-22)، والقوة البحرية (11 حاملة طائرات عاملة)، والتقدم في مجالات مثل الحرب الإلكترونية والفضاء. جيشها مدرب على التدخل السريع عبر العالم.
مواطن الضعف: انتشار القوات الأمريكية في عشرات القواعد حول العالم يجعلها ممتدة وقد تكون عرضة للاستنزاف. التحدي الأكبر هو كيفية مواجهة تهديدات غير تقليدية (كالهجمات الإلكترونية أو عمليات التأثير) بترسانة تقليدية باهظة الثمن. النزاعات غير المتماثلة (Asymmetric Warfare) في العراق وأفغانستان كشفت عن محدودية القوة التقليدية المطلقة في تحقيق الأهداف السياسية.
روسيا: القوة الإقليمية العظمى والاستراتيجية الردعية
مكامن القوة: تركز روسيا على تحديث ترسانتها النووية (أكبر ترسانة في العالم) كضمان نهائي لأمنها القومي. تميزت بتطوير أسلحة جديدة مضادة للتفوق الغربي مثل الصواريخ فرط الصوتية (Avangard, Kinzhal) وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة (S-400). أظهرت في سوريا وأوكرانيا براعة في "الحرب الهجينة" التي تدمج القوات غير النظامية، والمعلومات المضللة، والعمليات الإلكترونية، مع القوة العسكرية المحدودة.
مواطن الضعف: يعتمد الاقتصاد الروسي بشكل كبير على الموارد الطبيعية، مما يجعله عرضة لتقلبات الأسعار. الجيش الروسي أصغر حجمًا من نظيره السوفيتي ويركز على الدفاع الإقليمي أكثر من القدرة على الإ projectionعالمي. التحدي التكنولوجي، خاصة في مجال الإلكترونيات الدقيقة، قد يعيق قدراته على المدى الطويل.
الصين: التنين الصاعد بطموحات عالمية
مكامن القوة: تحول الجيش الشعبي للتحرير من جيش يعتمد على الكم إلى جيش حديث وقائم على التقنية. الصين تستثمر بشكل ضخم في تحديث أسطولها (بما في ذلك حاملات الطائرات)، وتطوير طائرات الجيل الخامس (J-20)، وتعزيز قدراتها الصاروخية (مثل صواريخ DF-21D "قاتلة حاملات الطائرات"). تمتلك أكبر جيش من حيث العدد، وتعمل على رقمنته بالكامل.
مواطن الضعف: تفتقر الصين إلى الخبرة القتالية الواسعة التي تمتلكها الولايات المتحدة وروسيا في الحروب الحديثة. قدراتها على الإسقاط العالمي (القوة اللوجستية لنقل وإمداد قوات عبر المحيطات) لا تزال في طور النمو مقارنة بالولايات المتحدة.
المحور الثاني: القوى الصاعدة والمتوسطة.. لعبة الموازنات الإقليمية
الهند: قوة إقليمية عظمى بترسانة نووية، وثالث أكبر ميزانية دفاعية. تنوع مصادر تسليحها (روسية، غربية، ومحلية) يعطيها مرونة ولكن قد يشكل تحدّيًا لوجستيًّا.
إسرائيل: تعتبر قوة عسكرية تكنولوجية متقدمة جدًا، رغم صغر حجمها. تفوقها النوعي في مجالات الاستخبارات، والحرب الإلكترونية، والدفاع الصاروخي (قبة الحديد) يجعلها لاعبًا رئيسيًّا في الشرق الأوسط.
تركيا: تسعى لأن تكون قوة إقليمية فاعلة، وتعمل على تطوير صناعة دفاعية محلية (مثل الطائرات المسيرة "بيرقدار" التي أثبتت فعاليتها). موقعها الجيواستراتيجي يمنحها نفوذًا كبيرًا.
إيران: تعتمد على استراتيجية "الردع عبر التمدد" من خلال شبكة من الوكلاء والميليشيات في المنطقة. تركز على تطوير برنامج صاروخي باليستي متطور وأسلحة غير متماثلة، مما يعوض نقص قوتها الجوية والبحرية التقليدية.
المحور الثالث: ميادين الصراع الجديدة.. حيث يتحدد مصير الحروب
هنا يكمن قلب الإجابة على سؤال "التفوق". فائز ساحة المعركة التقليدية قد يخسر الحرب في هذه الميادين:
الحرب الإلكترونية والفضاء الإلكتروني: القدرة على تعطيل البنى التحتية للعدو (كهرباء، اتصالات، بنوك)، وسرقة الأسرار، وتشغيل حملات التضليل أصبحت سلاحًا استراتيجيًّا. جميع القوى الكبرى تستثمر بشكل هائل في هذه المجالات.
الحرب في الفضاء الخارجي: الأقمار الصناعية هي عيون وآذان الجيوش الحديثة. تطوير أسلحة مضادة للأقمار الصناعية (ASAT) يعني أن أي صراع مستقبلي كبير قد يبدأ في الفضاء لتعطيل قدرات الخصم.
الذكاء الاصطناعي والأتمتة: الطائرات المسيرة القاتلة، والأنظمة المستقلة لاتخاذ القرارات، وتحليل البيانات الضخمة لتوقع تحركات العدو، كلها تقنيات تعيد تعريف ساحة القتال. من يسيطر على الذكاء الاصطناعي قد يفرض إرادته بسرعة خيالية.
الحرب الاقتصادية والعقوبات: أصبحت العقوبات المالية والاقتصادية سلاحًا فعّالاً قد يضعف قدرة الخصم العسكرية على المدى الطويل دون إطلاق رصاصة واحدة.
الخاتمة: التفوق السياقي.. لا وجود لـ"أقوى جيش" مطلق
خلاصة التحليل تؤكد أن فكرة "الجيش الأقوى في العالم" بشكل مطلق أصبحت فكرة بالية. التفوق في القرن الحادي والعشرين هو تفوق سياقي وظرفي.
في مواجهة تقليدية مفتوحة واسعة النطاق، قد تحتفظ الولايات المتحدة بتفوقها بسبب قوتها الجوية والبحرية الهائلة.
في نزاع إقليمي محدود على حدود دولة مجاورة، قد تتمتع روسيا بتفوق حاسم بسبب قدراتها الصاروخية المتطورة وأسلحة الحرب الهجينة.
في منطقة مثل بحر الصين الجنوبي، تمتلك الصين تفوقًا محليًّا بسبب كثافة صواريخها وقربها من ساحة المعركة.
في حرب غير متماثلة أو مواجهة إلكترونية، قد تتفوق قوى صغيرة مثل إسرائيل أو حتى جهات فاعلة غير دولية.
إذن، إجابة سؤال "من يملك التفوق في صراع القرن؟" هي: ذلك الذي يستطيع تحديد طبيعة الصراع، وفرض قواعده، والقتال في الميادين التي يمتلك فيها الأفضلية. القوة لم تعد مجرد ترسانة، بل هي مزيج من القدرة العسكرية، والمرونة الاقتصادية، والتقدم التكنولوجي، والمهارة الدبلوماسية، وقوة الإرادة السياسية. صراع القرن، إذاً، هو صراع على تحديد未來 ساحة المعركة نفسها قبل خوضها