
الوهم المريح: لماذا نتمسك بالعملة الورقية في عصر التشفير؟
الوهم المريح: لماذا نتمسك بالعملة الورقية في عصر التشفير، وما الثمن؟
لطالما مثلت محفظتي الجلدية عبئًا جميلاً. تلك الأوراق البالية، والمعدن البارد؛ كانت رمزًا حقيقيًا للثروة الملموسة. لكن في الأعوام الأخيرة، باتت هذه المحفظة مجرد وهم مريح.
جميعنا نعيش الثورة الرقمية (العملات الرقميه)، ونسمع عن العملات المشفرة والمدفوعات اللاتلامسية، ورغم ذلك، لا نزال نتمسك بالعملة الورقية. هذا التمسك ليس مجرد عادة، بل هو تأثير نفسي واقتصادي عميق يستحق التوقف عنده.

1. وهم السيطرة والواقع الفيزيائي
هنا تكمن أول نقطة ضعف في نظامنا المالي الجديد. عندما أمسك ورقة نقدية، أشعر بـالسيطرة. هي ملكي، لا تحتاج إلى تطبيق، ولا خوارزمية، ولا كلمة مرور. هذا الشعور بالأمان، رغم كونه هشًا (فالورقة قد تحترق أو تُفقد)، إلا أنه يلبي حاجة بشرية غريزية: الحاجة إلى شيء مادي يمكن الدفاع عنه.
الأجيال التي نشأت على "النظام القديم" تربط القيمة بالوزن والشكل. أما العملات المشفرة فتعاني من مشكلة وجودية: هي مُجرد أرقام ووعود مشفرة. وبينما يعتقد الاقتصاديون أنها تفوق العملة التقليدية، يجد المواطن العادي صعوبة في إقناع عقله الباطن بأن "مفتاحًا خاصًا" يساوي قيمة عقار.
2. التكلفة النفسية للشفافية المطلقة
أحد أبرز وعود العملات الرقمية هو الشفافية الكاملة واللامركزية. لكن هذا الوعد يحمل في طياته تناقضًا مرعبًا للمستهلك العادي: الشفافية المطلقة تعني فقدان الخصوصية الشخصية.
لقد اعتدنا على أن تكون مدفوعاتنا الصغيرة غير مرئية للحكومات والبنوك المركزية (شراء قهوة هنا، أو هدية بسيطة هناك). النظام الرقمي بالكامل يلغي هذا "الفضاء الرمادي" المريح. عندما يدرك الناس أن كل إنفاقهم الصغير يمكن تتبعه وتحليله وتصنيفه، فإنهم يتراجعون. نحن لا نريد أن نكون كتابًا مفتوحًا بالكامل أمام أي كيان، حتى لو كان "بلوكتشين" لا مركزي.
3. ثمن التخلي: الجمود المؤسسي
التمسك بالنقود ليس قرارًا فرديًا فقط، بل هو جمود مؤسسي هائل. فكر في نظام الضرائب، أو العقود القانونية، أو حتى المحاسبة البسيطة في متجر بقالة صغير. هذه الأنظمة بُنيت على مدى قرون لتخدم العملة الورقية والمركزية.
إن التحول الكامل إلى العملات الرقمية يتطلب:
إعادة كتابة الدساتير والقوانين المالية.
إعادة تدريب جيوش من المحاسبين والموظفين.
التضحية بالمليارات لتأمين البنية التحتية ضد الاختراقات السيبرانية.
هذا الثمن الباهظ يجعل البنوك والمؤسسات تفضل أن تبقى في "الوهم المريح" الحالي، حيث تكون المشاكل مألوفة وقابلة للإدارة، على الدخول في فوضى تغيير جذري غير مأمون العواقب.
ملخص المقالة (الخلاصة)
الأمر في النهاية لا يتعلق بأفضلية التكنولوجيا (فالجميع يقر بتفوق البنية التحتية للعملات المشفرة). الأمر يتعلق بـ الثقة .
لقد وضع الإنسان ثقته لقرون في البنوك المركزية (البنوك والحكومات) لضمان قيمة المال، حتى لو كانت هذه البنوك تخطئ أحياناً. اليوم، يُطلب منه أن ينقل هذه الثقة إلى رياضيات وخوارزميات مجهولة
سيظل التمسك بالعملة الورقية قائماً طالما بقي هذا التردد الإنساني في التخلي عن شيء ملموس ومألوف، والانتقال إلى عالم من "الأصفار والوحدات" التي، رغم منطقيتها التقنية، تفتقر إلى دفء العلاقة الإنسانية التي تربطنا بالمال منذ نشأة الحضارات.