الشرق الأوسط على صفيح ساخن: حين تتحول الجغرافيا إلى تراجيديا مستمرة

الشرق الأوسط على صفيح ساخن: حين تتحول الجغرافيا إلى تراجيديا مستمرة

Rating 0 out of 5.
0 reviews

الشرق الأوسط على صفيح ساخن: حين تتحول الجغرافيا إلى تراجيديا مستمرة

ليست النزاعات في الشرق الأوسط مجرد أحداث عابرة تُسجل في كتب التاريخ، بل هي حالة وجودية مزمنة، أشبه بـ "بركان" لا يخمد تمامًا، ينفث بين الحين والآخر حممًا من الدماء والدموع. المنطقة، التي شهدت مهد الحضارات، تحولت إلى مسرح لأكثر الصراعات تعقيدًا واستعصاءً على الحل في العصر الحديث. إنها ليست "صراعات لا تنتهي" بسبب غياب الإرادة للسلام فحسب، بل لأنها أصبحت شبكة معقدة من التراجيديات المتشابكة، حيث يصبح حل أحدها تفجيرًا لآخر.

الجذور العميقة: عندما يرسم الغرب حدودًا بقلم رصاص

لا يمكن فهم الحاضر دون الغوص في الماضي. فبينما كانت الإمبراطورية العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة، جلس الدبلوماسيان البريطاني والفرنسي، سايكس وبيكو، عام 1916 ليرسما بخريطة واتفاقية سرية معالم منطقة جديدة. تلك الخطوط المستقيمة، التي قسمت العالم العربي إلى دويلات وفقًا لمصالح الاستعمار وليس وفقًا للتركيبة الاجتماعية أو التاريخية، كانت البذرة الأولى للصراع. لم تكن هذه الحدود "جروحًا في جسد الأمة العربية" حسب التعريف الرومانسي فحسب، بل كانت إنشاءً مصطنعًا لكيانات هشة، تحمل في داخلها بذور النزاع الطائفي والقبلي والعرقي. وأضيف إلى ذلك وعد بلفور المشؤوم 1917، الذي منح "وطنًا قوميًا لليهود" في فلسطين، مُرسيًا حجر الأساس لأعقد قضية في المنطقة، والتي أصبحت القضية المركزية التي تتفرع منها وتعود إليها معظم الصراعات.

المعادلة المستحيلة: الموارد مقابل الاستقرار

من المفارقات الصارخة أن المنطقة الأغنى في العالم بالثروات النفطية هي الأكثر عرضة للهشاشة. لقد تحول النفط من نعمة إلى نقمة في كثير من الأحيان. فوفرة الثروة عززت من أنظمة حكم أوتوقراطية، أو شبه إقطاعية، تعتمد على اقتصاد الريع بدلاً من بناء مجتمعات منتجة ومتوازنة. كما جعلت المنطقة ساحة للصراع بين القوى العظمى على النفوذ والسيطرة على منابع الطاقة. وأدى هذا الصراع إلى ظاهرة "الجماعات المسلحة غير الدولة"، التي مولتها أطراف إقليمية ودولية لتحقيق أجنداتها بالوكالة، مما أفقد الدولة الوطنية احتكارها للعنف وأربك المشهد السياسي برمته.

الفاعلون الإقليميون: رقعة شطرنج كبيرة

تحولت المنطقة إلى رقعة شطرنج كبرى، يتحرك عليها لاعبون إقليميون بأحلام إمبراطورية:

إيران: مشروع الهلال الشيعي. تسعى طهران لتصدير ثورتها وتمتد نفوذها من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا ولبنان واليمن، مستغلة الطائفية كأداة فعالة. هذا التمدد يضعها في صراع مباشر مع:

المملكة العربية السعودية: زعامة العالم السني. تتصدى الرياض للمشروع الإيراني، مدعومة بثقلها المالي والديني، في حرب باردة ساخنة تتجلى في اليمن وسوريا ولبنان والعراق.

تركيا: إحياء الحلم العثماني. بقيادة أردوغان، تعيد أنقرة اكتشاف عمقها الاستراتيجي في المشرق العربي وشمال أفريقيا، من ليبيا إلى سوريا إلى العراق، متنقلة بين تحالفات متغيرة.

إسرائيل: الدولة القلعة. تعمل على ضمان أمنها المطلق من خلال التفوق العسكري والاستخباراتي، وضرب أي محاولة لامتلاك جيرانها لقوة عسكرية تهدد تفوقها النووي، مع استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية مما يغذي دائرة العنف.

مصر: ثقل الجغرافيا والتاريخ. تلعب القاهرة دورًا محوريًا كدولة وزن في قضايا مثل فلسطين وليبيا، لكن ثقلها السكاني وتحدياتها الاقتصادية الداخلية تحد من قدرتها على لعب دور قيادي إقليمي حاسم.

العامل الخارجي: عندما يكون الحل جزءًا من المشكلة

لم تكن القوى الدولية يوماً مجرد مراقب محايد. فالتدخلات الأمريكية (من غزو العراق إلى سياسات ترامب وبايدن المتقلبة) والروسي (الداعم الرئيسي لنظام الأسد في سوريا) والأوروبي، غالبًا ما كانت تزيد الأمور تعقيدًا. لقد خلقت هذه التدخلات فراغات سياسية وأمنية (كما في العراق 2003) أو عمقت من أزمات إنسانية (كما في سوريا). والنتيجة هي فقدان ثقة الشعوب في أي وساطة دولية، وانعدام مصداقية "الشرعية الدولية" التي تبدو انتقائية بحسب المصالح.

التداعيات الإنسانية: الوجه البشري للصراع

خلف خطابات السياسة وتحليلات الاستراتيجيا، هناك مأساة إنسانية هائلة:

أزمة اللاجئين والنازحين: ملايين البشر شردوا من ديارهم، يحملون جراح الماضي ولا يجدون ملاذًا في الحاضر، مما يهدد الاستقرار الديمغرافي والاجتماعي في دول الجوار وأوروبا.

انهيار البنى التحتية: دمرت الحروب المستشفيات والمدارس والطرق، مما يعني خسارة أجيال كاملة من التعليم والرعاية الصحية.

الصحوة الطائفية: أعادت الصراعات إحياء الهويات ما قبل الوطنية (الطائفية والعشائرية) على حساب الهوية الوطنية الموحدة، مما يسهل استغلالها سياسيًا ويصعب عملية المصالحة مستقبلًا.

هل هناك بصيص أمل؟ نحو مخرج من المتاهة

رغم الكآبة التي تخيم على المشهد، يبقى الأمل مرتبطًا بتحولات جوهرية:

الانتقال من منطق "الصفر-واحد" إلى منطق "الكسب المشترك". يجب أن تدرك الأطراف الإقليمية أن النصر الكامل لأي طرف هو وهم، وأن الحل الوحيد هو عبر التفاوض والتسويات السياسية.

إعادة بناء الدولة الوطنية. بمعنى دولة القانون والمؤسسات التي توفر العدالة والفرص لجميع مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم، مما يسحب البساط من تحت أقدام الجماعات المتطرفة.

دور أكثر فاعلية وديمومة من المجتمع الدولي، لكن هذا الدور يجب أن يكون قائمًا على مبادئ العدالة وليس المصالح الضيقة، وأن يركز على دعم الحلول السياسية وليس العسكرية.

تمكين الأصوات المعتدلة داخل المجتمعات، التي تؤمن بالحوار والتعايش، بدلاً من تغذية خطابات الكراهية والتطرف.

الخلاصة: لعنة الجغرافيا أم فشل السياسة؟

الشرق الأوسط ليس محكومًا بلعنة جغرافية أو دينية. المشكلة ليست في دينه أو في طبيعة أهله. المشكلة هي في تراكمات تاريخية من السياسات الخاطئة، والتدخلات الخارجية المدمرة، وإدارة داخلية فاشلة للتنوع والثروة. الخروج من هذه المتاهة يتطلب شجاعة نادرة من قادة المنطقة للتخلي عن أحلام الإمبراطوريات والتركيز على بناء أوطان آمنة ومستقرة لشعوبها. حتى ذلك الحين، سيبقى الشرق الأوسط على صفيح ساخن، حيث شرارة صغيرة كفيلة بإشعال حريق كبير، في تراجيديا تبدو وكأنها لا تنتهي.


 

image about الشرق الأوسط على صفيح ساخن: حين تتحول الجغرافيا إلى تراجيديا مستمرة

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

50

followings

7

followings

9

similar articles
-