حين يعانق الآذان امواج البحر

حين يعانق الآذان امواج البحر

0 المراجعات

على تخوم الساحل، حيث ينتهي اليابس ويبدأ الامتداد الأزلي للماء، يقف مسجد أبيض المآذن، شامخًا كمنارة إيمان وسط لوحة طبيعية ساحرة. تحيط به الحقول الخضراء من كل جانب، مزدانة بزرعٍ يانع وأشجارٍ باسقة، حتى يبدو المكان وكأنه بساط صلاة نسجته الأرض بيد الخالق، ممدودًا على ضفاف البحر.

في ساعات الفجر الأولى، حين يغزل الضباب خيوطه بين الزرع وتنام الموجة على صدر الشاطئ، يعلو صوت المؤذن من مئذنة المسجد. لا يكتفي الأذان بأن يوقظ القلوب النائمة، بل يمتد عبر النسيم البارد ليعانق الأمواج، وكأن البحر كله ينصت بخشوع. يختلط صدى التكبير بخرير الماء، فتتشكل سيمفونية سماوية لا تُسمع إلا هنا.

الحقول المحيطة ليست مجرد أرض للزراعة، بل شاهد على علاقة الإنسان بالمكان. الفلاحون يأتون منذ الفجر، بعضهم يسبق المؤذن في الوصول، يحملون معاولهم وبذورهم، يلقون التحية على المسجد كما يلقونها على قريبٍ حميم، ثم يتوجهون للصلاة قبل أن يبدؤوا يومهم. هم يعرفون أن الماء يسقي الزرع، لكنهم يعلمون أن البركة تأتي من يد الله، وأن الدعاء في هذا المكان يختلط برائحة التراب المبتل.

البحر، في حضوره الممتد أمام المسجد، ليس مجرد منظر جمالي. إنه رفيق قديم، يبدل ملامحه مع تغير الفصول، ويمنح المصلين شعورًا بالانفتاح على الأفق اللامتناهي. في الصباح، يكون البحر هادئًا، مياهه كالمرآة، وفي الظهيرة يعكس زرقة السماء الصافية، أما عند الغروب، فيتلوّن بذهبٍ ونار، كأنه يستعد هو الآخر لصلاة المساء.

حين يشتد الريح، وتتلاطم الأمواج، يبدو الأذان أكثر قوة، كصوت يذكّر الموج بأن للسكينة سيدًا فوق كل الأصوات. المصلون حينها يدخلون المسجد بثياب تلامسها قطرات الملح، ووجوههم مضيئة بابتسامة من يعرف أن الطقس قد يتقلب، لكن رحمة الله ثابتة.

المسجد نفسه صغير المساحة، لكنه كبير الأثر. جدرانه تحمل عبق السنين، وسجادته تحتفظ بأثر أقدام أجيالٍ من المصلين. النوافذ المفتوحة على البحر تسمح بدخول نسيم مالح يختلط برائحة الخشب والبخور. وحتى الطيور التي تعشش في محيطه، تشارك في المشهد، فتصدح أحيانًا بصوتها قبل أن يبدأ الأذان أو بعده.

مع أذان المغرب، تتغير الألوان من حوله، السماء تشتعل بحمرة الغروب، والحقول تتهيأ لليل، والبحر يهدأ كطفل استسلم للنوم. المصلون يخرجون من بين المسالك الترابية التي تمر وسط الزرع، يحملون معهم دفء الصلاة ونسيم الساحل. يجلس بعضهم أمام المسجد، يتأملون المشهد بصمت، وكأنهم يحفظونه في ذاكرتهم لليوم الذي يغيبون فيه عن هذه الدنيا.

هنا، في هذا الركن الساحلي، يصبح المسجد أكثر من مكان للعبادة، إنه نقطة التقاء بين السماء والأرض والماء. مكان يعلّم أن الإيمان يمكن أن يكون جسرًا، يعبر فوق الحقول ويمتد حتى الأفق البحري، ليصل في النهاية إلى القلب. ومن يقف فيه، سواء كان مصلّيًا أو عابر سبيل، سيشعر أن روحه تبحر على موج الطمأنينة، حتى وإن ظل جسده ثابتًا .

ومع كل صلاة جمعة، يتحول المكان إلى ملتقى لأهالي القرى المجاورة. يأتون من طرقات ترابية ومن شواطئ قريبة، بعضهم على الأقدام، وآخرون على ظهور الدواب، يحملون معهم خبزًا ساخنًا أو تمورًا لتوزيعها بعد الصلاة. يصبح المسجد في تلك اللحظات أكثر من بيت عبادة، إنه قلب نابض بالحياة، يتلاقى فيه الدعاء مع الضحكة، وتلتقي فيه حكايات الصيادين مع أخبار الفلاحين. وبعد الخطبة، يقف بعضهم أمام البحر، يتبادلون الأحاديث بينما تتراقص الأمواج أمامهم، وكأنها تشاركهم فرحة اللقاء.

وهكذا، يظل هذا المسجد شاهدًا على حوار أبدي بين البر والبحر، بين الزرع والموج، بين الإنسان وربه. كل أذان يرفع من مئذنته هو وعد جديد بأن النور لن ينطفئ، وأن السلام سيبقى معلقًا في هذا الأفق، مهما تعاقبت الأيام وتبدلت الفصول. ومن يزور هذا المكان ولو مرة واحدة، سيحمل في قلبه شيئًا منه، همسة موج في أذن الأذان، ورائحة زرع مبلل بندى الفجر، وطمأنينة لا تشبه أي طمأنينة أخرى. هنا، عند هذا الساحل، تتعلم الأرواح أن السكينة ليست مكانًا يُسافر إليه، بل حالة تسكن في القلب حين يلتقي الأذان بالموج.

 

 

 

.

.

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة