اتفاقية سايكس بيكو
اتفاقية سايكس–بيكو
المقدمة
تُعد اتفاقية سايكس–بيكو من أكثر الاتفاقيات تأثيرًا في تاريخ الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، إذ أسهمت بشكل مباشر في رسم الخريطة السياسية الحالية للعالم العربي. وقد جاءت هذه الاتفاقية في سياق انهيار الدولة العثمانية وصعود القوى الأوروبية الاستعمارية، وخاصة بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تتنافسان على السيطرة على المشرق العربي. وعلى الرغم من أنها اتفاقية سرّية، فإن آثارها ظلت واضحة وممتدة، وأصبحت رمزًا للتقسيم واستغلال القوى الكبرى لضعف المنطقة.
يسعى هذا البحث إلى تقديم دراسة مطولة تشرح خلفيات الاتفاقية وظروفها، وتفاصيل بنودها، وكيفية كشفها، وأثرها العميق على الشرق الأوسط حتى الوقت الحاضر.
---
أولاً: خلفية تاريخية موسّعة
شهد القرن التاسع عشر حالة من التنافس الشديد بين الدول الأوروبية الكبرى، التي كانت تتسابق للسيطرة على المستعمرات. وكانت الدولة العثمانية، التي امتدت قرونًا طويلة، قد دخلت في مرحلة ضعف شديد، حيث فقدت كثيرًا من أراضيها في البلقان وشمال أفريقيا.
وقد أدّى موقع الشرق الأوسط الاستراتيجي، كحلقة وصل بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، إلى جعله هدفًا مهمًا لهذه الدول. وكانت فرنسا تتوسع في الشام، بينما كانت بريطانيا تركز على العراق والخليج لحماية طريق الهند، أهم مستعمراتها.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، أصبح مصير الأراضي العثمانية موضوعًا حاسمًا. فقد انضمت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، مما دفع الحلفاء إلى وضع خطط لتقسيم ممتلكاتها بعد هزيمتها.
---
ثانيًا: طريق المفاوضات نحو الاتفاقية
لم تكن المصالح البريطانية والفرنسية متطابقة تمامًا، بل كانت هناك خلافات حول مناطق النفوذ. وكانت بريطانيا تسعى إلى السيطرة على العراق بسبب النفط وموقعه الحيوي، إضافة إلى الأردن وفلسطين لضمان طريق الهند عبر قناة السويس.
أما فرنسا، فقد كانت تهتم بسوريا ولبنان نظرًا لعلاقاتها التاريخية مع الطوائف المسيحية هناك، إضافة إلى مصالحها التجارية.
بدأت المفاوضات عام 1915 بين:
مارك سايكس: دبلوماسي بريطاني
جورج بيكو: دبلوماسي فرنسي

وشاركت روسيا القيصرية في المفاوضات، إذ طلبت السيطرة على إسطنبول والمضائق التركية، وهو مطلب تم الاتفاق عليه مبدئيًا قبل الثورة البلشفية.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المفاوضات كانت تجري في السر، بينما كانت بريطانيا تتواصل مع العرب، عبر مراسلات حسين–مكماهون، وتَعِدهم بدعم استقلالهم إذا ثاروا ضد العثمانيين. وهذا يوضح الطبيعة المزدوجة للسياسة البريطانية في تلك الفترة.
---
ثالثًا: مضمون اتفاقية سايكس–بيكو التفصيلي
تم توقيع الاتفاقية في مايو 1916، وتركزت على تقسيم المناطق العربية من الدولة العثمانية إلى خمس مناطق رئيسية، موزعة بطريقة تضمن الهيمنة البريطانية والفرنسية.
1. المنطقة الزرقاء (سيطرة فرنسية مباشرة)
شملت معظم الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وتشمل:
لبنان
الساحل السوري
شمال سوريا
هذه المناطق كانت فرنسا تعتبرها ضمن نفوذها التاريخي والثقافي.
2. المنطقة الحمراء (سيطرة بريطانية مباشرة)
شملت مناطق استراتيجية على الخليج العربي، وتشمل:
جنوب العراق (البصرة)
الجزء الجنوبي من الكويت
مناطق ساحلية لحماية نفط الخليج وحماية طريق الهند
3. النفوذ الفرنسي غير المباشر
كانت هذه مناطق تُدار بشكل عربي داخليًا ولكن تحت إشراف فرنسي، وتشمل:
شمال سوريا الداخلي
ولاية حلب
الموصل (قبل انتقالها لاحقًا للعراق بمفاوضات جديدة)
4. النفوذ البريطاني غير المباشر
وهي المناطق التي تُدار عربيًا لكنها تحت التوجيه البريطاني، وتشمل:
بغداد
الأردن
بعض أجزاء فلسطين
5. فلسطين (منطقة ذات وضع دولي خاص)
تم الاتفاق على أن تكون فلسطين خاضعة لإدارة دولية مشتركة، لأن القوى الكبرى لم تستطع الاتفاق على من يسيطر عليها.
لكن لاحقًا ستصبح محور حدث أكبر وهو وعد بلفور (1917).
---
رابعًا: لماذا أرادت بريطانيا وفرنسا تقسيم المنطقة؟
1. الأهمية الاستراتيجية
كانت بريطانيا تريد حماية قناة السويس وضمان طريق بحري نحو الهند، بينما كانت فرنسا تطمح لوجود قوي على البحر المتوسط.
2. النفط
بدأ اكتشاف النفط في منطقة الخليج والعراق، ما جعل السيطرة عليها هدفًا اقتصاديًا مهمًا.
3. إضعاف الدولة العثمانية
كان الحلفاء يخشون أن تستعيد الدولة العثمانية قوتها، لذلك سعوا لتقطيع أوصالها.
4. منع التنافس الأوروبي
أدركت لندن وباريس أن عدم الاتفاق قد يؤدي إلى صراع بينهما، فاختارتا التفاهم قبل انتهاء الحرب.
---
خامسًا: كشف الاتفاقية والصدمة العربية
في عام 1917، قامت الثورة البلشفية في روسيا، وقام البلاشفة بنشر الوثائق السرّية للاتفاقيات الإمبريالية، ومنها اتفاقية سايكس–بيكو. كانت تلك صدمة كبيرة للعرب الذين كانوا يقاتلون إلى جانب بريطانيا على أمل إقامة دولة عربية مستقلة.
فقد ظهر بوضوح أن بريطانيا وعدتهم بالاستقلال لكنها كانت تتفاوض سرًا لتقسيم الأراضي بينهم وبين فرنسا، وهو ما أدى إلى فقدان الثقة في الوعود البريطانية لاحقًا.
---
سادسًا: النتائج المباشرة للاتفاقية على تشكيل الشرق الأوسط
1. إنشاء دول جديدة وحدود مصطنعة
تم تأسيس كيانات سياسية جديدة لم تكن موجودة سابقًا، مثل:
العراق
سوريا
الأردن
لبنان
فلسطين
تم رسم الحدود بشكل سريع لا يراعي الواقع الاجتماعي أو الديني أو القبلي.
2. تقسيم الجماعات العرقية والطائفية
مثال:
تم تقسيم الأكراد بين تركيا والعراق وسوريا وإيران.
تم توزيع القبائل العربية بين عدة حدود جديدة.
تم فصل مدن كانت تاريخيًا موحدة داخل ولاية عثمانية واحدة.
3. تمهيد الطريق لقيام دولة إسرائيل
ساهم وضع فلسطين تحت إدارة دولية، إلى جانب وعد بلفور، في تأسيس بيئة مناسبة لتهجير اليهود إلى فلسطين، وصولاً لإعلان إسرائيل عام 1948.
4. سيطرة اقتصادية طويلة الأمد
احتفظت بريطانيا وفرنسا بنفوذ اقتصادي وسياسي في الدول الجديدة لعقود طويلة، عبر الانتداب ثم النفوذ غير المباشر.
---
سابعًا: تأثيرات الاتفاقية على الصراعات الحديثة
لا يزال أثر سايكس–بيكو حاضرًا في العديد من القضايا المعاصرة:
1. الصراع العربي–الإسرائيلي
نشأ من الطريقة التي تمت بها إدارة فلسطين بعد الاتفاقية، ومن السياسات البريطانية التي مهّدت لقيام إسرائيل.
2. الصراعات الطائفية
الحدود المصطنعة جمعت جماعات متباينة داخل دولة واحدة دون انسجام اجتماعي، مثل العراق وسوريا ولبنان.
3. النزاعات على الحدود
دول مثل العراق والكويت أو سوريا وتركيا عانت من خلافات حدودية جذورها تعود لاتفاقية سايكس–بيكو.
4. ظهور حركات رافضة للحدود
بعض التنظيمات الحديثة رفعت شعار "إسقاط حدود سايكس–بيكو"، في إشارة إلى الرفض التاريخي للاتفاقية.
---
ثامنًا: تقييم تاريخي شامل
من وجهة نظر عربية
تُعد الاتفاقية رمزًا للخيانة والتقسيم والاستعمار؛ لأنها قضت على حلم الوحدة العربية، وأعطت القوى الأوروبية الحق في تقرير مصير المنطقة.
من وجهة نظر غربية
يرى بعض المؤرخين الغربيين أن الاتفاقية كانت محاولة لحفظ التوازن بين القوى، وضمان الاستقرار بعد الحرب، رغم أنها أنتجت نتائج سلبية لاحقًا.
من وجهة نظر سياسية حديثة
هناك اعتقاد بأن أي إعادة ترتيب للشرق الأوسط اليوم لا يزال مقيدًا بإرث سايكس–بيكو، وأن فهم هذه الاتفاقية ضروري لتحليل الأحداث الجيوسياسية الحالية.
---
الخاتمة
إن اتفاقية سايكس–بيكو لم تكن مجرد اتفاق لتقسيم الأراضي، بل كانت مشروعًا سياسيًا أعاد تشكيل الشرق الأوسط بالكامل. وقد أدّت إلى إنشاء دول جديدة، ورسم حدود غير طبيعية، وخلق صراعات لا تزال تتكرر حتى اليوم.
ويمكن القول إن المنطقة تعيش حتى الآن في ظلال هذه الاتفاقية، سواء في الحدود أو النزاعات أو حتى في العلاقات بين الدول.
فإن دراسة اتفاقية سايكس–بيكو ليست مجرد قراءة للتاريخ، بل هي فهم لجذور الواقع المعاصر في العالم العربي، ومحاولة لاستيعاب الأسباب العميقة للاضطرابات التي تشهدها المنطقة.