
النفس الباغية والقلب العاشق
النفس الباغية والقلب العاشق
في محراب الضعف الإنساني..
أيها القراء الكرام..
أقف اليوم على أعتاب ساحة الشعر، لا لأشدوا بقصيدة نصر أو ألحان فخر، بل لأفتح نافذة على خبايا النفس البشرية، تلك المملكة العميقة التي تتنازعها قوى متضاربة، وتتقاذفها أمواج الهوى واليقين. أقف لأتحدث عن "الإنسان".. هذا الكائن المجبول على الضعف، الذي يحمل بين جنبيه قوة الإرادة وعجز التنفيذ، نُور البصيرة وظُلمة الانقياد.
إن قصيدتي هذه ليست سوى مرآة صادقة تعكس الصراع الأزلي الذي يدور فينا، الصراع بين ما "يجب أن يكون" وما "يؤول إليه الحال". إنه الحديث المرير عن عدم القدرة على منع النفس من الوقوع في المعصية، تلك الهوة السحيقة التي نرى قاعها بوضوح، ونعرف أن فيها الشقاء، ومع ذلك نمشي إليها بخطوات مثقلة، كأننا مُسَيّرون لا مُخَيّرون.
لقد خلقنا الله تبارك وتعالى في أحسن تقويم، وزوّدنا بالعقل والإرادة والشرائع، وجعل لنا بوصلة تُشير إلى الحق والخير، هي الفطرة السليمة. لكنه سبحانه، بحكمته البالغة، ابتلى هذا الجوهر الصافي بمنازعات الحياة، وأغراه ببريق زائل، ووكله إلى نفسٍ أمارة بالسوء، وإلى شيطانٍ يُجيد التزيين والإغواء.
ويبدأ الصراع.. تلك الملحمة اليومية الصامتة التي نعيشها في دواخلنا. نحن نعلم الحقيقة، ونعي حجم المسؤولية، وتؤرقنا فكرة المصير. تُضيء شعلة الإيمان في القلب، فنهبّ طالبين النجاة، ونُجاهد لنجعل من هذا الجسد محراباً للطاعة. نتوضأ بماء الندم، ونرفع أيدينا بالدعاء، ونقطع العهود على أنفسنا بالثبات والاستقامة.
ولكن.. يا للأسف ومرارة الإخفاق! ما أن ينقضي وقت اليقظة الروحية حتى تعود خيول الهوى جامحة، وتتسلل "المعصية" إلينا في ثوب رقيق من التبريرات، أو في شكل حاجة ملحّة لا يمكن قمعها، أو كهمسة خفيفة تَعِدُ بلذة عاجلة وسرور مزيف.
إن هذا الضعف ليس مجرد انحراف عرضي، بل هو حالة أصيلة في تركيبنا البشري، حالة نراها في قصة أبينا آدم عليه السلام حين نسي العهد وضعف أمام الإغراء، فتوارثناها جيلاً بعد جيل. إنها لعنة الضعف الإنساني، حين يغلب القصورُ الكمالَ، وتُرجّح كفّة الطين على كفّة الروح.
هذه القصيدة هي صرخة ذلك الجزء الواعي فينا، الذي يرى السقوط قادماً ولا يملك القوة الكافية للارتفاع. هي شكوى الحائر، وتوبة العائد، وأنين الروح التي أدركت خُطورة الطريق، لكنّ قيود العادة والشهوة قد شدّت وثاقها.
إنها دعوة للتأمل في هوان النفس البشرية أمام شهواتها، وتذكير بأن الاعتراف بهذا الضعف هو الخطوة الأولى نحو القوة الحقيقية. ففي هذا الضعف، تكمن حاجتنا المطلقة إلى عون الله ورحمته، وفي هذا الإخفاق المتكرر، نُدرك أن لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
فليست هذه القصيدة مدحاً للمعصية أو تبريراً لها، بل هي تصوير أمين لمعاناة "النفس اللوامة"، التي تُخطئ فتنكسر، ثم تنهض لتعود وتُخطئ، وتظل تلوم ذاتها بين سجدة وتوبة وزلة وهوى.
فلنستمع معاً إلى نبض هذه القوافي، علّنا نجد فيها صدى لأرواحنا المتعبة، وعلّها تُحرّك فينا عزماً جديداً يشدّ أزرنا في هذا الجهاد الأكبر، جهاد النفس ضد الضعف والانقياد. فـ "المرء ضعيف" ولكن "الله قوي".. وفي رحمته وسعتنا، ومن فضله نرجو العون.
تفضلوا أيها الكرام... القصيدة.
في ختام هذه القصيدة الشعرية، وبعد أن أبحرتْ بنا القصيدة في لجج النفس الإنسانية وصراعها الأبدي مع الضعف والهوى، أُؤكد أن الهدف لم يكن يوماً هو اليأس، بل هو الاعتراف الصادق.
إن الإقرار بعدم القدرة على منع النفس من المعصية ليس استسلاماً، بل هو مفتاح التضرع الحقيقي. ففي كل سقوط، تكمن فرصة للنهوض أقوى وأكثر تواضعاً. هذه المعاناة المشتركة هي التي تجمعنا تحت مظلة "البشرية" التي لا تستغني عن عون خالقها.
فلنخرج من هذا المقام بقلوبٍ موقنة بأن باب التوبة لا يُغلق، وأن الضعف الإنساني يُقابله سعة الغفران الإلهي. ليكن هذا الشعر صوتاً يُذكّرنا جميعاً: أننا ضعفاء.. ولكن لنا ربٌّ غفُور رحيم.
شكرا لمنحي بعضاً من وقتكم لقراءه هذه القصيدة.