
شمس المعارف الكبرى.
الغموض والشائعات لا يقفان عند هذا الحد؛ إذ يُقال إن البوني كان مولعا بحضارة مصر القديمة، وخلال زيارته أحد المعابد في صعيد مصر، عثر على برديات تحتوي على وصفات سحرية، استخدمها قدماء المصريين في تسخير الجان، فقام بجمعها في كتابه، وهذا مثال واحد فقط على التفسيرات الشعبية المتداولة حول مصادر هذا الكتاب الغامض.
هو شرف الدين أو شهاب الدين أحمد بن علي بن يوسف البوني، يُكنى بأبي العباس، ويُنسب إلى مدينة "بونة"، عنابة حاليا في دولة الجزائر. سنة مولده غير معروفة، بينما ترجح أغلب الآراء أن وفاته كانت عام 622هـ، ما يوافق القرن الثالث عشر الميلادي. قال عنه الزركلي في كتابه "الأعلام": "أبو العباس البوني صاحب المصنفات في علم الحروف متصوف مغربي الأصل، نسبته بونة بأفريقية على الساحل".
المعروف عن حياة البوني قليل وغير مؤكد، لكن من المؤرخين مَن يرجح أن الرجل تعلم قراءات القرآن الكريم في تونس، وتفنن في علوم النحو والمنطق والبلاغة، كذلك علوم الأسماء والإشارات. وبالإمكان رصد أثر علوم اللغة والإشارات تلك على منتجه الفكري، الذي جاء أغلبه متبحرا في أسرار الحروف وخواصها، على حد قول الزركلي.
تشير الروايات الراجحة إلى أن البوني تفقه على مذهب الإمام مالك، لكن ذلك الأمر، شأنه شأن كل ما يتعلق بالبوني، لم يخلُ من تشكيك. يذكر المؤرخ حاجي خليفة في كتابه "سلم الوصول إلى طبقات الفحول" أن البوني كان شافعيا، ويقال إنه كان كثير التنقل؛ أقام بالقاهرة ورحل إلى مكة حاجًّا، ثم إلى بيت المقدس حيث التقى بالحافظ ابن عساكر، ثم إلى بغداد وهناك التقى بابن الجوزي، ومنها إلى مصر فأقام بها مدة، ثم إلى تونس حيث عمل بالتدريس والوعظ، قبل العودة أخيرا إلى مصر والوفاة بها.
ويُذكر أنه كان ورعا شغوفا بالعبادات والصوم، يؤثر العزلة على مخالطة الناس، وكان يخرج بانتظام كي يُقيم في جبل "ماكوض" على البحر شرقي تونس، ولم يكن له أولاد ولا أتباع لإعراضه عن ذلك
والواضح أن البوني كان غزير الإنتاج، إذ يذكر إبراهيم باشا البغدادي في كتابه "هدية العارفين" نحو 37 مصنّفا من تأليف البوني، ومن ضمن المؤلفات التي يذكرها البغدادي: إظهار الرموز وإبداء الكنوز، تنزيل الأرواح في قوالب الأشباح، التوسلات الكتابية والتوجهات العطائية، جواهر الأسرار في نواهر الأنوار، خصائص سر الكريم في فضائل بسم الله الرحمن الرحيم، وغيرها.
غير أن معظم تلك المؤلفات مفقود، بل ثمة آراء تشكك في صحة النُّسخ المتوفرة حاليا من مؤلفاته، وعلى الأخص أشهرها: "شمس المعارف الكبرى ولطائف العوارف". وتعود الطبعة المشهورة والمتداولة حاليا من الكتاب إلى عام 1986، وهي طبعة المطبعة الشعبية في بيروت، وتتكون من أربعة أجزاء في مجلد واحد نحو 600 صفحة، مقسّمة على 40 فصلا، وتورد على البوني في افتتاحيتها: "ويشمل هذا القانون القويم والطريق المستقيم أربعين فصلا، كل فصل يشتمل على معانٍ وإشارات ورموز خفيات وظاهرات، فتدبره بعقلك وتأمله بفكرك".
وبالإمكان تقسيم تلك الفصول حسب محتواها إلى 4 أنواع؛ فصول ذات محتوى فلكي ورياضي، مثل فصل "في أحكام منازل القمر"، وفصول تناقش مسائل لغوية وعلوم أسرار الحروف، مثل "في اسم الله الأعظم وما له من التصريفات الخفية"، وفصول أخرى ذات صبغة صوفية وروحية، مثل "في الخلوة وأرباب الاعتكاف الموصلة للعلويات"، وأخيرا فصول تنطوي على طلاسم وأسحار غامضة، مثل "في خواص بعض الطلسمات النافعة".
نتاج عدة أجيال!
اهتمت العديد من المؤلفات والدراسات بكتاب "شمس المعارف" وسعت إلى تتبع أصوله، وقد خلص الكثير منها إ إحدي هذه الدراسات هي القراءة البحثية المعنونة "المعرفة المحرمة.. ملاحظات حول إنتاج، ونقل، واستقبال أعمال أحمد البوني" التي أشرف عليها "نوح غاردنر"، الباحث في قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة ميتشجن الأميركية، يرى غاردنر أن العمل الذي اشتهر من خلاله اسم البوني، وهو كتاب "شمس المعارف الكبرى"، أُنتج خلال القرن الـ11 الهجري/القرن الـ17 الميلادي، أي إن المخطوطة المتوفرة مكتوبة بعد وفاة البوني بنحو 5 قرون كاملة.