
هناك طوائف اللغويين والنحاة والرواة: شاركوا مشاركة فعالة في بناء البلاغة
هناك طوائف اللغويين والنحاة والرواة الذين شاركوا مشاركة فعالة في بناء البلاغة ، وكانوا من أكبر العاملين في ميدان البلاغة العربية، فاللغويون والنحاة عنوا ببحث الألفاظ ودلالتها، وباللغة وقواعد بيانها، كما عرضوا لما في النصوص الأدبية من بلاغة عند شرحها، والرواة نقلوا أحاديث الأدب، وتحدثوا في الاستعمالات المختلفة للكلمات.
والغريب أن نرى الجاحظ يقلل من جهود اللغويين والنحاة وخاصة رواة الأخبار والأشعار ويعلى عليهم عامة الرواة وحذّاق الشعراء ورواة الكتَّاب وذلك إذ يقول:" ولم أر غاية النحويين إلا كلَّ شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل. ورأيت عامتهم – فقد طالت مشاهدتي لهم – لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتّاب أعم، وعلى ألسنة حذّاق الشعر أظهر".
ومع ما في هذه الكلمة من دلالة قوية على بصر الجاحظ بفن القول والسمات التي تضفى عليه نعوت البلاغة، فإن فيها كذلك تجنباً وافتئاتاً من جانبه في الحكم على أئمة اللغويين والنحاة ورواة الأشعار والأخبار.
نقول ذلك لأن ما ورد في كتب الأدب وحتى في بعض كتبه هو من أنباء هذه الطوائف التي قلل من جهودها في ميدان البلاغة لا يؤيد حكمه السابق عليهم.
فالأصمعي الذي طلب عنده علم الشعر فوجده لا يحسن إلا غريبه قد أورد له الجاحظ في كتابه " البيان والتبيين" أكثر من كلمة دالة على مدى علمه بأوجه البلاغة والفصاحة ومحاسن الكلام وعيوبه.
فالجاحظ مثلاً يروى عنه قوله:" ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر ، وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه. فمن ذلك قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر **** وليس قرب قبر حرب قبر
فما معنى هذا القول؟ معناه أن الأصمعي يشير به إلى أحد الأمور التي تخل بفصاحة الكلام، وأعنى به تنافر الكلمات في التراكيب، هذا التنافر الناشيء عن اتصال بعض الألفاظ ذات الحروف المتقاربة في مخارجها ببعض، مما يولد صعوبة في النطق بها، كما هو الشأن في البيت السابق، والذي قيل أنه لا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرات متواليات دون أن يتعتع ، أي يتلعثم ويتلجلج.
والجاحظ يروى عن الأصمعي تعريفه للبليغ بقوله:" البليغ من طبق المفصل وأغناك عن المفسر" وهذا كلام مفاده أن الأصمعي يدرك أن البلاغة الإيجاز، وأن من فصاحة اللفظ أو المفرد وضوحكه، ومن عيوبه الغرابة التي تحوج إلى التقاط معناه وتفسيره من المعاجم مثلاً.
والجاحظ يروى عنه كذلك قوله:" الحطيئة عبد لشعره" ثم يعلق بقوله:" عاب الأصمعي شعر الحطيئة حين وجده كله متخيراً منتخباً مستوياً لمكان الصنعة والتكلف والقيام عليه" ومعنى ذلك أن الأصمعي كان عليماً بالفرق بين شعر الطبع وشعر الصنعة. وأنه يخشى على الشعر أن تتغلب عليه نزعة الصنعة والتكلف فتفسده، فهو إذن من أعداء الصنعة والتجويد.
وروى أن الأصمعيى سئل عن بشار ومروان بن أبي حفصة أيهما أشعر؟ فقال: بشار. فسئل عن ذلك فقال: لأن مروان سلك طريقاً كثر من يسلكه فلم يلحق بمن تقدمه وشركه فيه من كان في عصره. وبشار سلك طريقاً لم يسلك. وأحسن فيه. وتفرد به. وهو أكثر تصرفا وفنون شعر. وأغزر وأوسع بديعاً. ومروان لم يتجاوز مذهب الأوائل" . وهذا قول يدل على قدرته في الموازنة ونقد الشعر، وعلمه بالفرق بين المقلد والمجدد.
وذكر الأصمعي المطابقة في الشعر التي هي إحدى المحسنات البديعية المعنوية، فعرفها لغة ومثل لها وذلك إذ يقول: أصل المطابقة وضع الرجل في موضع اليد في مشيء ذوات الأربع، وأحسن ما قيل في ذلك قول زهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا *** ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
ومن قوله أيضاً في زحاف الشعر:" الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه لا يقدم عليها إلا فقيه".؟
وكان أبو هلال العسكري يحتج بقوله في مواضع عدة . كقوله في صدر كلامه على التجنيس :" أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كل واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها على حسب ما ألف الأصمعي كتاب الأجناس".