
ماذا أقول في لغة العرب
وأقول
ما زلت أتمسّك بهذا الإحساس حتى وإن حاولتُ أن أضعه تحت ميزان البرهان الصارم: أنَّ ألفاظ العربية وأصواتها ليست كألفاظ اللغات الأخرى. ليست مجرد كلمات متراكبة على معنى، بل هي أوتار تُدَغْدَغ لتفلح في إخراج مشاعرٍ وصورٍ لا تستقر في نفس المتكلم إلا نادراً مع غيرها من اللغات. حين أنطق بـ«لغة العرب» أشعر بعزةٍ تسري في لساني وكأنما التاريخ نفسه يمرُّ على حلقاتي، وكأن الحروف لا تُنطق فحسب بل تُرَحَّب في الروح.

قد يسأل قائل: وهل هذا سوى ذوقٍ شخصي؟ أجيب: ربما جزءٌ منه ذوق، لكن الجزء الأكبر شعورٌ جماعي ناتج عن تاريخٍ مركبٍ من شعرٍ ونثرٍ وبلاغةٍ وقرآن. الصوت في العربية ليس محض أداة نطق؛ إنه حاملٌ لوزنٍ ومعنىٍ وإيقاع. لذلك ليس عجيباً أن يستغرب العربي حين يسمع لفظة إنجليزية وتبقى عنده غريبةُ النبرة والوزن، بينما لا يشعر الإنجليزي بنفس قدر الاستغراب إذا استمع إلى عبارة عربية، لأن للاعتناء بالنغمة والمعنى في العربية مستوياتٌ لا تصادفها كثيراً في لغاتٍ أخرى.
وليس مقصودنا بالطبع التقليل من قيمة لغاتٍ عظيمةٍ أخرى؛ كل لغةٍ لها روحها وجمالها. لكن في العربية ثمة شيءٌ فريد: قابليتها للانسجام مع المقام الشعري والبلاغي إلى حدٍّ يجعل كل تركيبٍ فيها يحتمل التأويل والتلوين. عندما يسمع المستمع نصاً عربياً مضبوطَ القافيةِ والإيقاع، قد يشعر بأن سماعَه ليس فقط فهماً بل تجربةٌ روحية. وقد يلمس غير العربي هذه التجربة أيضاً — فليس القلبُ العربي وحده القابل للتأثر؛ لقد رأينا القرآن والشعر العربي يؤثران في قلوبٍ من لُغاةٍ أخرى، يأخذهم وقعُ الكلمة وعنفوانُ العبارة، فيتذوقون الجمال ولو بلغوا بغير أصلِ اللسان.
أقول هذا مع اعترافٍ بالتاريخ: العربية لم تُخلق عند نزول القرآن، فقد كانت لها حياةٌ في الجاهلية من شعرٍ وحكمةٍ وبلاغةٍ. لكن القرآن — بلا منازع — أرسى لها مقاماً جديداً وأعطاها فضاءً رحباً من الخلود والعمق؛ فالنصُّ القرآني حين نزل عربياً لم يُحوِّل فقط تراكيب اللغة، بل ضَمَنَ لها مقوّماتٍ استثنائيةً من دقةٍ وموسيقىٍ ومعنىٍ متعانقٍ. ولذلك أزعم أن القرآن وهب العربية «نوعاً» من الحياة التي زادت من إشراقها وخلّدتها عبر القرون.
ولعل أعجب ما في العربية أنّها ليست لغةً جامدةً تُحفظ في بطون الكتب فقط، بل هي كائنٌ حيّ يتجدد مع الأجيال. تراها في كلام الصغار حين يلتقطون ألفاظها بلا تكلف، وتراها في فصاحة الخطباء والشعراء حين يطوِّعونها كأنها عجينة بين أيديهم، وتراها كذلك في لهجات الناس اليومية التي ما زالت تحمل قلب الفصحى في أعماقها. هذه القدرة على الجمع بين الجزالة والمرونة هي التي جعلتها صامدةً أمام عصورٍ متقلبةٍ، تتجدد في القلوب والألسنة مهما تعاقبت الحضارات وتغيرت الأحوال.
ثم إن من أسرار العربية أنها قادرة على أن تُلهِم العقل كما تُلهم الوجدان. ليست لغةَ العاطفة وحدها، بل لغة المنطق والفكر أيضاً؛ فقد احتضنت الفلسفة والعلوم والفقه والتاريخ قروناً طويلة. فكما أنها تُطرب الأذن بإيقاعها، فإنها تفتح أبواب العقل بمفرداتها الدقيقة ومصطلحاتها الواسعة. فهي لغة الروح والعقل معاً، ولهذا لم تفقد قيمتها رغم مرور القرون، لأنها لا تُخاطب جانباً واحداً من الإنسان، بل تخاطب كيانه كله.