وعود من رماد

وعود من رماد

0 reviews

وَعَدتني يا صديقي أنّكَ الدَّربُ الأمين،
وأنَّ ظِلَّكَ إن مالَ الزمانُ لا يَلين.
قُلتَ: "أنا في الشِّدَّةِ سَيفٌ لا يَغيب،
وسَأبقى ما حييتُ الوفا لكَ واليقين".

لكنَّما حِينَ اشتدَّت عليَّ العواصف،
غَبتَ، وما عادَ لي في الليلِ دفءٌ ولا سَكين.
تَرَكتَني بينَ جُدرانٍ من الحُزنِ وَحيدًا،
أُطاردُ صدى الذِّكرى، وأَسقيها الأنين.

أيُّ صُحبَةٍ تلكَ التي تُباعُ عندَ أوَّلِ ابتلاء؟
أيُّ قلبٍ ذاكَ الذي يَهوى ويَخون؟
أكنتَ تَلهو بالكلامِ وتَعرفُ أنني،
أبنيتُ على الوعدِ بيتًا من الحُبِّ الدَّفين؟

يا صاحِ، قد علَّمتني الخُذلانُ دَرسًا،
أن لا أُسلِّم قلبي لوعدٍ لا يَستبين.
فالوفاءُ نَجمٌ نادِرٌ في هذا الزمان،
لا يُضيءُ إلا لِمَن صَدَقَ وراحَ مُخلِصًا يَعين.

قد كنتُ أظنُّكَ قمَرًا يَهتدي بهِ السَّائرون،
فإذا بكَ سَرابٌ يَخدعُ العيون.
فلا تلُمني إن صِرتُ أُغلِقُ أبوابَ قلبي،
ولا أُصدِّقُ وعدًا مهما كانَ يَكون.

سَأرحلُ عن ذكراكَ كما يَرحلُ الغريب،
وأكتُبُ على جدارِ قلبي: "هُنا ماتَ الحنين".
فلا صَداقةَ إلا لِمَن رَعاها بِوَفاء،
ولا وَعدَ إلا لِمَن عاشَ صادقًا مُستَكين.
كم من ليلٍ طَويلٍ انتظرتُ فيه طَيفكَ،
أُطالعُ السَّماءَ لعلَّ نجمةً تُخبرني عنكَ،
لكنَّ النجومَ كانت تُشيحُ بوجهها عن قلبي،
وكأنَّها تَعلم أنّ الوعدَ ماتَ قبل أن يُولد.

كنتَ تَقولُ: "نحنُ إخوةُ الرُّوح"،
فأينَ الرُّوحُ حينَ تَصدَّعَ الجسد؟
وأينَ الأخوَّةُ حينَ جاعَ قلبي للسَّند؟
لم أجِد سوى صَوتي يُعانقُ صَوتي،
وسوى دَمعي يَغسلُ وحدتي في الظَّلام.

آهٍ يا صاحبي، ما أقسى أن تَكشِفني الكلمات،
وما أمرَّ أن يُسلَبَ مِنِّي الأمان.
كنتُ أظنُّ أنَّ الوعدَ جِسرٌ نعبرُ به معًا،
لكنَّهُ كانَ جُسرًا مُتصدِّعًا يَسقطُ عندَ أوَّلِ خُطوة.

تَعَلَّمتُ أنَّ الصديقَ الحقيقي،
ليسَ مَن يَقولُ "أنا هنا"،
بل مَن يَبقى وإن ضاقت الدُّنيا وضاعَ الرجاء.
هو الذي يُمسِكُ بيدكَ حينَ يَرحلُ الجميع،
ويُضيءُ قلبكَ وإن أطفأَ الزمانُ قناديلَك.

أمَّا الوعودُ، فهي مِثلُ الزجاجِ الملوَّن،
تُبهِرُنا ألوانُها حينَ تُعلَّقُ في ضوء الشَّمس،
لكن ما إن يَغيبُ الضَّوء،
حتى تَنكَسِرَ وتَسقُطَ شظاياها في القلوب.

يا صاحِ، قد غَدرتَني، لكنَّكَ لم تَكسِرني،
فقد جَعلتني أقوى ممَّا كُنتُ أظن.
سأحيا بلا وعودٍ زائفة،
وبلا وجوهٍ مُتخفِّية خلفَ قِناعِ الحُبّ.
سأبني حولَ قلبي أسوارًا من صَمت،
وأتركُ للزَّمانِ أن يَكشِفَ لي مَن يَستَحِقُّ.

فإذا جاءَ يومٌ والتَفتُّ للخلف،
فلن أذكُركَ إلّا كَظلٍّ عابر،
مرَّ على حياتي ليُعلِّمني،
أنَّ الوفاءَ جوهرةٌ نادرة،
وأنَّ الخيانةَ سُرابٌ لا يَرعى قَلبًا، ولا يَحمِلُ روحًا


يا صديقي، كنتَ تَقول:
"الوعدُ عهدٌ، والصُّحبةُ أمان"،
لكن حينَ اشتدَّت عليَّ الخطوب،
لم أجد فيكَ إلا صَدى صَوتٍ يَتلاشى،
وكأنَّ كلماتكَ كانت غيمةً عابرة،
لم تُمطِر يومًا، ولم تُظلِّل قلبًا.

ما أقسى أن تُعطي قلبكَ لِمَن لا يعرفُ قيمته،
وأن تَمنَحَ ثِقتكَ لِمَن يُتقنُ طَعنها!
فقد كانَت يداكَ تَصافحُني،
لكنَّ عينيكَ تُخفيانِ وراءَهما هَشاشةَ المَشاعر.

أتعلمُ يا صاحبي؟
إنَّ الخذلانَ ليسَ في غيابِكَ فقط،
بل في حضورِكَ الذي كانَ أشدَّ غِيابًا.
كنتَ تجلسُ بقربي، لكنَّكَ أبعدُ من كلِّ البِحار،
كنتَ تَضحكُ في وجهي، لكنَّ ضَحكتكَ كانت مرآةً
تُخفي جُرحًا تزرعُهُ في صدري دونَ رحمة.

أيُّ صُحبةٍ هذه؟
أيُّ إخلاصٍ هذا؟
أكنتَ تَخشى أن تَكشِفكَ المواقف؟
أم كنتَ تَنتظر أن تَرحلَ لتَرتاحَ مِن حَملِ وَعدٍ لم تُردْه يومًا؟

علَّمتني أن أُؤمِن أنَّ الصديقَ الحقيقيّ،
هو الذي لا يَعد، بل يَفعل،
هو الذي لا يُحدِّثُكَ بالوفاء، بل يُثبِتُهُ بالزمن.
أما مَن يَملأ أذنكَ بالكلام،
فهو كالبحرِ المالِح،
يُغريكَ بمنظرِه، ويُميتُكَ إذا شَربتَ منه.

لقد مَضيتَ يا صاحبي،
لكنَّني لم أعُد أبحثُ عن ظِلّك.
سأمشِي في طُرُقي وحدي،
وأزرعُ في قلبي يقينًا،
أنَّ مَن يَخذُلني اليوم،
لا يَستحقُّ أن يَكونَ في غَدِي.

وسأظلُّ أقولُ:
إنَّ الوعودَ كلماتٌ عابرة،
لكنَّ المواقفَ هي الحياة.
وأنَّ الأصدقاءَ كثيرون في الفَرح،
لكنَّ القليلَ منهم مَن يُشعلُ لكَ شمعةً في العَتمة.

فيا لَكَ من صديقٍ علَّمتني بالقسوة،
وأهديتَني دروسًا من الألم.
قد تَركتَني، لكنَّكَ أيقَظتَ فيَّ قُوَّةً،
سَتَجعلني أعبرُ دروبَ الخيانة،
وأبني من خَذلانِكَ جسرًا نحو حياةٍ أصدق.

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

4

followings

4

followings

4

similar articles