ما لا تعرفه عن التنمية البشرية وتطوير الذات

ما لا تعرفه عن التنمية البشرية وتطوير الذات

0 المراجعات

يطرأ على أذهاننا من حينٍ لآخر السؤال الرئيس: "ما هي رغبتي الحقيقية؟" ونسأل أنفسنا: "ما هو الشيء الذي نسعى إليه؟"، "فما هو الهدف الذي إذا تحقق توقفَ سعيُنا واشتهاؤنا لأي شيء آخر؟" كل ما نتمناه ونسعى لتحقيقه ينبت من تصور محدد لمفهوم «السعادة»، حتى وإن لم نكن ندرك هذا الأمر تمامًا. وتُعَدُّ هذه الفكرة من أقدم الأفكار التي ناقشتها الحضارات على مر العصور على أيدي فلاسفتها. 

والجواب على الأسئلة السابق ذكرها يؤول إلى ما يدركه الشخص وحده دون غيره، فقد تكون السعادة في وصول شخص إلى درجة اجتماعية رفيعة المستوى، وقد تكون في نجاح طالب في المرحلة الثانوية أو المرحلة الجامعية، وقد تكون في حصول آخر على منحة دراسية في بلد آخر، وقد تكون في حصول شخص على ترقية في وظيفته، وتستمر (قد تكون كذا وكذا) إلى ما لا نهاية؛ كلٌ حسب ما يحدده الشخص لنفسه. ولكن، هل تصير هذه السعادة أبدية؟ أم أنها سعادة أمدية مرتبطة بهدفٍ ما وحسب، إذا ما تحقق تصير سعادة الشخص سعادة وقتية، ثم يبدأ الشخص في تحديد هدف آخر ويسعى لتحقيقه، فيسعد ثانيةً سعادةً أمديَّةً، وهلم جرا؟ 

وعلى صعيدٍ آخر، في عالمنا الحديث، يمكننا القول بأن معنى «السعادة» مرتبط بقوة بالحياة التكنولوجية التي صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية؛ نعتمد على التكنولوجيا في معظم جوانب حياتنا – إن لم تكن كل حياتنا – من التواصل والمعاملات المالية، إلى العمل والترفيه، لدرجة وصلت بنا إلى أن صناعة مواقع الذكاء الاصطناعي صارت بديلًا عن الإنسان. ومع ذلك، لا يبدو أن الإنسان بوجهٍ عامٍ أكثر سعادةً ورضًا في حياته، رغم تحسين أنماط الحياة التي جلبتها التكنولوجيا. ولكن بعد كل هذه التطورات، لا يزال البحث عن «السعادة» محورًا مهمًّا في حياة الإنسان. لكن هل يمكن أن تكون التكنولوجيا عائقًا أم أداة في سبيل تحقيق السعادة والرفاهية؟ 

في الحقيقة إن الجواب غير محدد المعالم – في عصرنا الحاضر – فإذا طُرِحَ هذا السؤال على الناس في وسائل التواصل الشبكي المُسمى بـ (التواصل الاجتماعي)، سنقرأ أو سنسمع وجهات نظر عديدة جدًّا، قد يتفق بعضها، وقد يختلف البعض الآخر حول قيمة التكنولوجيا – المتعلقة بالسعادة – في حياة الإنسان الآن. 

يبدو أن مفهوم «السعادة» في حاجةٍ إلى إعادة تعريفه من جديد، وإعادة تقديمه للناس في مظهره الجديد (الأصيل)، بعد أن صار بسيطًا إلى حد التعقيد؛ إعادة تعريفها والولوج إلى كُنْهِها بعيدًا عن تصورات الناس التي انحرفت كثيرًا جدًّا عن جوهرها؛ بل إن الأمرَّ من ذلك أن لكتب «تطوير الذات» و«التنمية البشرية» [1] الرأسمالية السهم الأكبر في هذا الانحراف الذي جعل الناس تلتف حول المادة، والمحسوسات، والأمور الظاهِرة "مع الإهمال التام للأمور الباطِنة" من خلال إعلاء «الأنا» التي أفسدتْ على الناسِ أمور حياتهم. وليس هذا وحسب؛ بل إِنَّ هناك بُعْدًا سياسيًّا عالميًّا – يطول شرحه – للتنمية البشرية، ويمكن إطناب المطلوب فيما يأتي. 

في مشهد من فيلم هندي (Island City) يخاطبُ فيه مديرُ الشركةِ موظفَه قائلًا: (تقول الأبحاث إن مؤشرات الإنتاج تنخفض، والسبب هو عدم شعور الموظفين بالسعادة، لهذا رتَّبنا لك برنامجًا ترفيهيًّا هذا اليوم، وآمرك أن تستمتع وتشعر بالسعادة حتى لا تتسبب في التأثير على مبيعاتي). ومثل هذا المشهد موجود في أفلامنا ومسلسلاتنا المصرية والعربية بكثرة.

قد يكون هذا مجرد مشهد من فيلم ساخر، لكن هذا المفهوم انتشر منذ عقود خلتْ على مستوى الأفراد والشركات، مفهوم «كُن سعيدًا» لا يهمُّ إن كان هذا يتناسب مع ظروفك الحالية أو لا، لكنه مطلب عام. وانتشرت كتب التنمية البشرية وتطوير الذات التي تتحدث عن مفهوم «السعادة»، وكيفية الحصول على «السعادة» والشعور بها، ولكن في الحقيقة أن اكتساب «السعادة» بهذا التصور «الإجباري» له جوانب قاتمة في «النفس». بل إن الأدهى والأَمَرَّ هو أن السوق العربية من هذه الكتب لأجل التجارة وربح المال وحسب، سعيًا وراء كلمة «الكتب الأكثر مبيعًا في العالم» عن جهل تارة وعن عمد تارة أخرى عبر سياسة رأسمالية غربية أوروبية تُفْرَضُ فرضًا على العالم، ثم على مجتمعنا العربي لكونه لاعبًا رئيسًا في مواجهة الاشتراكية الروسية. 

إن هذه الجملة التي قالها مدير الشركة لموظفه هي باختصار ما يحدث في السياسة العالمية؛ أي إعلاء مبادئ الرأسمالية الأمريكية والأوروبية في مواجهة الشيوعية الصينية والاشتراكية الروسية. فينبغي لنا أن نفهم «السعادة» الحالية أنها مرتبطة بالنظام الرأسمالي الغربي الذي يحاول أن يقول للجميع (أنا موجود؛ أنا لن أتغير). هذا النظام حاول منذ تأسيس الفكرة الرأسمالية أنها قامت على مفهوم (Individualism: الفردانية). مرَّ هذا المفهوم بثلاث مراحل: 

المرحلة الأولى: كانت مرحلة أمنية شديدة عقب الحرب العالمية الثانية، وتجلتْ في مطاردة الاشتراكيين واليساريين في أوروبا والغرب الرأسمالي. 

المرحلة الثانية: جاءت بعد فشل ثورة 1968 في فرنسا. 

المرحلة الثالثة: بدأ ظهور «التنمية البشرية» القائم على الخلاص الفردي، في منتصف الثمانينيات مع بداية ضعف النظام الاشتراكي. 

فالهدف الأسمى للتنمية البشرية التابعة للغرب الرأسمالي هو تخدير شعوب العالم دون أن يشعر أحد، بكلمات تحث على العمل، وزيادة الإنتاج، وزيادة عدد ساعات العمل، والرضا بالراتب الشهري الذي يحدده صاحب العمل "الرأسمالي". فوظيفة التنمية البشرية هنا هي رفع همة العامِل أو الموظف في القطاع الخاص، ومحاولة تنمية مهاراته العقلية والبدنية، ومحاولة تحسين مزاجه العام بالقدر الذي لا يُعَكِّرُ صفوه، فيستمر في عمله إلى الحد الذي لو فكَّرَ فيه أن يترك العملَ أو الوظيفة، فإنه سيُشَرَّد؛ بل إن هدف الرأسمالية من التنمية البشرية في الأصل هي ترسيخ مبدأ (الوظيفة تساوي البقاء على قيد الحياة). فيجب وجوبًا على العامِل أو الموظف أن يستمر في عمله وهو مرتاح البال، بشوش الوجه، مجتهد في عمله، راضٍ براتبه القليل، بل ويجب عليه ألَّا ينزعج من ذلك أيضًا، وهذا هو هدف صاحب العمل الرأسمالي الذي يتجه بعقله وفكره دومًا إلى زيادة رأس ماله دون الحاجة إلى زيادة راتب العامِل أو الموظف في يوم ما. وبذلك، فقد ضَمِنَ النظام الرأسمالي استمرار وجوده، وكذا استمرار العامِل أو الموظف في عمله وهو على إيمانٍ تام بأن الوظيفة هي الحياة نفسها، فإذا تركها، فلن يستطيع العيش وسد احتياجاته المعيشية. 

إنها في الأصل سياسات عالمية، وصراعات دائرة بين أنظمة اقتصادية لا علاقة لها بـ «السعادة» لا من قريب ولا من بعيد. وأما مصير شعوب العالم أجمع – وبالأحرى شعبنا العربي الذي يستورد الأفكار دون فَهم لحقيقتها ودوافعها السياسية – مفعول به لترسيخ مبادئ النظام العالمي الجديد بالمبدأ الإنجليزي القائل: (Slow But Sure: بطيء ... لكن أكيد المفعول). 


 


[1] نرى كثيرًا من الناس يُفَرِّقون بين (التنمية البشرية) و(تطوير/ مساعدة الذات)، والحقيقة أن الثانية وُلِدَتْ من رَحِمِ الأولى، وهي تابعة سياسيًّا واقتصاديًّا للأولى التي اسْتُحْدِثَتْ فكرتها عقب الحرب العالمية الثانية. فالأولى تخدم نظام اقتصادي معين (الرأسمالية)، والثانية عبارة عن الوهم المَبِيع للشعوب من أجل خدمة الغرب الرأسمالي، ومن ثم تخدم فكرة (النظام العالمي الجديد) لاحقًا. 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

3

متابعين

1

متابعهم

2

مقالات مشابة