فن التغافل: القوة الخفية التي يمتلكها العظماء
نحن نعيش في عصر "الإفراط في الملاحظة"، حيث ندقق في كل كلمة، ونحلل كل نظرة، ونقف عند كل زلة. ولكن، هل سألت نفسك يومًا: لماذا يبدو بعض الناس أكثر هدوءًا ونجاحًا من غيرهم رغم أنهم يواجهون نفس المشاكل؟
السر لا يكمن في قدرتهم على المواجهة دائمًا، بل في قدرتهم على التغافل.
ما هو التغافل؟ وهل هو ضعف؟
يخلط الكثيرون بين التغافل والضعف، أو بينه وبين الغفلة (الجهل بما يحدث). والحقيقة أن الفارق بينهما شاسع:
الغفلة: هي ألا تدري ما يدور حولك لقصور في فهمك.
التغافل: هو أن تعلم وتدرك كل شيء، ولكنك تختار بإرادتك الحرة أن تمرر الموقف وكأنك لم تره، ترفعًا وحكمةً.
قيل قديمًا: "تسعة أعشار العافية في التغافل". وهو فن لا يتقنه إلا الأقوياء، فالضعيف يندفع بردود أفعال عشوائية، أما القوي فهو من يملك زمام نفسه ويقرر متى "يرى" ومتى "يغض الطرف".
لماذا نحتاج إلى التغافل اليوم أكثر من أي وقت مضى؟
١. حماية طاقتك النفسية
عقلك يمتلك مخزونًا محدودًا من الطاقة اليومية. عندما تستهلك هذه الطاقة في الرد على تعليق سخيف في فيسبوك، أو الغضب من سائق متهور، أو التدقيق في زلة لسان لصديق، فإنك لا تُبقي لنفسك طاقة للإبداع، العمل، أو الاستمتاع بالحياة. التغافل هو درعك الحصين ضد "لصوص الطاقة".
٢. سر استمرار العلاقات
لا توجد علاقة إنسانية (زواج، صداقة، زمالة) خالية من العيوب. الشخص الذي يقف عند كل خطأ سيجد نفسه وحيدًا في النهاية. التغافل هو "الزيت" الذي يجعل تروس العلاقات تدور بسلاسة دون أن تتآكل وتتحطم بسبب الاحتكاك المستمر.
٣. التركيز على الأهداف الكبرى
انظر إلى الناجحين والعظماء عبر التاريخ، ستجدهم دائمًا يتعرضون للنقد والهجوم. لو توقفوا ليردوا على كل حجر أُلقي عليهم، لما بنوا مجدًا. هم يتقنون فن "العمى الاختياري" عن كل ما لا يخدم أهدافهم.
كيف تمارس فن التغافل بذكاء؟
لكي تكون متغافلاً ذكياً، لا بد من اتباع خطوات عملية:
قاعدة الـ 5 سنوات: عندما يزعجك موقف ما، اسأل نفسك: "هل سأهتم بهذا الأمر بعد 5 سنوات؟". إذا كانت الإجابة "لا"، فلا تمنحه أكثر من 5 دقائق من حزنك الآن.
اختر معاركك: ليست كل ساحة تستحق أن تشهر فيها سيفك. بعض المعارك الانتصار فيها خسارة للوقت والكرامة. انسحب بابتسامة، فهذا هو الانتصار الحقيقي.
فلتر عالمك الرقمي: لا تكن سلة مهملات لآراء الآخرين. استخدم زر "Unfollow" أو "Mute" بسخاء مع أي مصدر يبث السموم في يومك.
التمس العذر (مرة واحدة): افترض حسن النية في البداية، فربما لم يقصد الطرف الآخر الإساءة. هذا يريح قلبك أنت قبل أن يريحهم.
الخلاصه
الحياة أقصر من أن نقضيها في رصد الأخطاء وتصحيح مفاهيم الناس والرد على كل شاردة وواردة. كن كالجبل، تتكسر عليه الرياح ولا يهتز، ولا تكن كورقة الخريف تحركها أي نسمة هواء.
تعلم أن تمرر الكلمات المؤذية كأنها لم تُقال، وأن ترى الأخطاء الصغيرة وتتجاوزها كأنها لم تحدث. ففي النهاية، راحة بالك هي مسؤوليتك أنت وحدك، ومفتاح هذه الراحة هو كلمة واحدة: تغافل.