الولايات المتحدة والصين: معركة العملات الرقمية واستراتيجيتان لتشكيل مستقبل المال

الولايات المتحدة والصين: معركة العملات الرقمية واستراتيجيتان لتشكيل مستقبل المال

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

الولايات المتحدة والصين: معركة العملات الرقمية واستراتيجيتان لتشكيل مستقبل المال

في صمت مختبرات التكنولوجيا وقاعات صنع القرار في واشنطن وبكين، تدور واحدة من أعظم المعارك الجيواقتصادية في القرن الحادي والعشرين. إنها ليست حربًا بالذخيرة التقليدية، بل هي سباق لتحديد طبيعة المال نفسه. من خلال تطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC)، تقدم الولايات المتحدة والصين رؤيتين متعارضتين جوهريًا لمستقبل النظام المالي العالمي، تعكسان فلسفتيهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتباينة.

الخلفية: لماذا العملة الرقمية للبنوك المركزية الآن؟

قبل الغوص في الاستراتيجيتين، من المهم فهم الدوافع العالمية المشتركة. صعود العملات المشفرة الخاصة مثل البيتكوين والإيثيريوم، ومشاريع العملات المستقرة مثل "ليبرا" السابقة لميتا، هزّ احتكار البنوك المركزية لإصدار النقود. أدركت الحكومات أن السيادة النقدية قد تكون على المحك. تضيف إلى ذلك الرغبة في زيادة كفاءة المدفوعات، شمولية الخدمات المالية، ومكافحة الأنشطة غير المشروعة. لكن كيفية تحقيق هذه الأهداف هي حيث يبدأ الاختلاف الجذري.

النموذج الصيني: اليوان الرقمي (e-CNY) كأداة للسيطرة والتأثير العالمي

أطلقت الصين تجارب اليوان الرقمي في عام 2019، مسجلة سبقًا كبيرًا على معظم الاقتصادات المتقدمة. استراتيجيتها مركزية، سريعة، ومدفوعة بأهداف داخلية وخارجية واضحة.

1. الدوافع المحلية: الكفاءة والرقابة:

السيطرة على النظام المالي: يهدف e-CNY إلى تقليص هيمنة شركات الدفع الخاصة العملاقة مثل "AliPay" و"WeChat Pay"، اللتين تهيمنان على حياة المواطنين المالية. تريد الحكومة إعادة البيانات المالية إلى مركزها وتقليل المخاطر النظامية التي تشكلها هذه المنصات.

تعزيز الرقابة: يتميز اليوان الرقمي بدرجة عالية من التتبع. على عكس النقود الورقية، كل معاملة يمكن تتبعها، مما يمكن الحكومة من مكافحة الفساد وغسيل الأموال بشكل أكثر فعالية، ولكن أيضًا مراقبة تحركات الأموال للمعارضين وتنفيذ أنظمة مثل "نظام الائتمان الاجتماعي" بشكل أكثر دقة.

شمولية مالية: يساعد e-CNY في توفير خدمات مالية للفئات غير المتعاملة مع البنوك، وخاصة في المناطق الريفية.

2. الطموحات العالمية: تحديث الهيمنة الأمريكية:

تقليص اعتماد الدولار: هذا هو الهدف الاستراتيجي الأكبر. يستخدم الدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمية وأداة للعقوبات المالية. من خلال تقديم بديل رقمي فعال وسهل الاستخدام للمعاملات عبر الحدود، تأمل الصين في تقليص قوة أمريكا في فرض عقوبات وعزل خصومها.

إضفاء الطابع الدولي على الرنمينبي: لطالما كانت الصين ترغب في جعل عملتها جزءًا أكبر من النظام المالي العالمي. e-CNY هو الحصان الرابح لتحقيق ذلك، خاصة في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، حيث يمكن استخدامه في المدفوعات بين الدول المشاركة.

الخصائص التقنية: يعمل e-CNY بشكل أساسي كبديل رقمي للنقود الورقية. يمكن استخدامه في المعاملات دون الحاجة إلى حساب بنكي (من خلال محافظ بسيطة)، وهو مصمم للعمل في وضع "غير متصل بالإنترنت"، مما يزيد من مرونته.

النموذج الأمريكي: الدولار الرقمي (المحتمل) كوسيلة للحفاظ على الهيمنة وتعزيز الخصوصية

رد فعل الولايات المتحدة كان أكثر حذرًا وتداولًا علنيًا. بينما أعلن البنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) عن تقارير استكشافية مثل "Money and Payments: The U.S. Dollar in the Age of Digital Transformation"، فإن النقاش لا يزال في مراحله المتقدمة نسبيًا مقارنة بالصين.

1. الدوافع: "التصرف بشكل صحيح" بدلاً من "التسرع":

الحفاظ على دور الدولار: الدافع الأساسي هو ضمان بقاء الدولار الأمريكي كعملة الاحتياطي العالمية المهيمنة. أي عملة رقمية للبنك المركزي يجب أن تعزز هذا الدور، وليس أن تقوضه. الخوف هو أن تأخر الولايات المتحدة قد يسمح للصين أو آخرين بوضع المعايير التي تتعارض مع المصالح الأمريكية.

حماية الخصوصية: هذا هو أكبر عقبة سياسية وتقنية. المجتمع الأمريكي والكونغرس شديدا الحساسية تجاه أي شيء يمكن أن يمنح الحكومة قدرة على مراقبة المعاملات المالية الفردية. أي تصميم للدولار الرقمي يجب أن يوازن بين الحاجة إلى مكافحة الجريمة وحماية الخصوصية كحق أساسي. النقاش يدور حول نموذج "الوسيط" حيث تتدخل البنوك التجارية، بدلاً من نموذج الحساب المباشر لدى البنك المركزي الذي قد يثير مخاوف الخصوصية.

تعزيز الابتكار والقطاع الخاص: تريد الولايات المتحدة تطوير نظام لا يخنق الابتكار المالي من قبل القطاع الخاص، بل يكمله. الفكرة هي إنشاء بنية تحتية آمنة يمكن للشركات المالية البناء عليها.

2. الاستراتيجية الدولية: تحالفات ومقاييس:

بدلاً من العمل بشكل منفرد، تستكشف الولايات المتحدة التعاون مع حلفائها. مشاريع مثل "مشروع سيدر" (Project Cedar) بين بنك نيويورك الاحتياطي الفيدرالي ومعهد سينغافورة للتمويل (MAS) تختبر إمكانية استخدام CBDCs في المدفوعات الدولية الأسرع. الهدف هو إنشاء شبكات متوافقة تعتمد على معايير مفتوحة وشفافة، على عكس النموذج المركزي المغلق الذي قد تتبناه الصين.

مقارنة جوهرية: رؤيتان لعالم المستقبل

 

المعيارالنموذج الصيني (e-CNY)النموذج الأمريكي (المحتمل)
الفلسفةمركزية، تكنوقراطية، تركز على الكفاءة والرقابة.لا مركزي، قائم على السوق، يركز على الخصوصية والابتكار الخاص.
الهدف المحليتعزيز سيادة الدولة والرقابة، وكسر هيمنة قطاع التكنولوجيا المالية الخاص.حماية الخصوصية الفردية، والحفاظ على استقرار النظام المالي القائم.
الهدف الدوليتقليص هيمنة الدولار، وتدويل الرنمينبي، وتشكيل نظام مالي بديل.الحفاظ على هيمنة الدولار، وتشكيل معايير عالمية مع الحلفاء.
نمط الحوكمةمغلق، تتحكم فيه الدولة بالكامل.مفتوح (محتمل)، يتضمن القطاع الخاص والبنوك التجارية.
التقنية والخصوصيةقابلية تتبع عالية، مع حدود معاملات محتملة.تصميم يحمي الخصوصية (محتمل)، ربما مع أدوار للوسطاء.

التحديات والمستقبل: من سيفوز؟

لا يخلو السباق من عقبات كبيرة لكلا الطرفين:

الصين: تواجه شكوكًا دولية عميقة بشأن استخدام البيانات وسيادة القانون، مما قد يحد من تبني e-CNY عالميًا. كما أن نجاحه في تقليص هيمنة الدولار غير مضمون، نظرًا لشبكات الدولار العميقة والقوانين الأمريكية.

الولايات المتحدة: الخلافات السياسية الداخلية الحادة حول الخصوصية ودور الحكومة قد تعرقل أي تقدم، مما يخاطر بفقدان المبادرة للصين.

النتيجة الأكثر ترجيحًا ليست "فوز" طرف واحد، بل ظهور نظام نقدي عالمي متعدد الأقطاب. قد نرى تكتلات مالية: كتلة تستخدم اليوان الرقمي بقيادة الصين، وكتلة تستخدم الدولار الرقمي (إذا ظهر) بقيادة الولايات المتحدة، وربما كتلة أوروبية خاصة بها. سيكون المستقبل تحديًا دبلوماسيًا وتقنيًا كبيرًا لضمان قدرة هذه الأنظمة المختلفة على العمل معًا بسلاسة.

الخلاصة:
معركة العملات الرقمية بين الولايات المتحدة والصين هي أكثر من مجرد منافسة تكنولوجية. إنها تجسيد لصراع أيديولوجي أوسع: بين نموذج الدولة المركزية التي تستخدم التكنولوجيا لتعزيز سيطرتها داخليًا ونفوذها خارجيًا، ونموذج ديمقراطي يحاول، رغم تعقيداته، التوفيق بين الابتكار والحرية الفردية والهيمنة العالمية. الطريقة التي سيتم بها حل هذا الصراع ستحدد، إلى حد كبير، شكل الاقتصاد والحريات في العقود القادمة

image about الولايات المتحدة والصين: معركة العملات الرقمية واستراتيجيتان لتشكيل مستقبل المال
التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

43

متابعهم

5

متابعهم

7

مقالات مشابة
-