
التخطيط العمراني في الجزائر
شهد التخطيط العمراني في الجزائر تحوّلاً جذرياً خلال العقود الأخيرة، لم يكن مجرد تحديث تقني وإنما انتقال فلسفي جذري في التعامل مع المدن. هذا التحول عبر ثلاث مراحل رئيسية شكلت مسار التطور العمراني الوطني، انطلاقاً من التخطيط الشمولي التقليدي وصولاً إلى اعتماد نموذج المشروع العمراني، وصولاً إلى تحديات المشاركة المجتمعية في صناعة القرار الحضري.
من التخطيط الشمولي إلى تبني المشروع العمراني
في السابق، استند التخطيط العمراني في الجزائر إلى نماذج شمولية متسلطة، تعتمد على أدوات رسمية وتقليدية مثل قانون التهيئة العمرانية 1990، الذي فرض إطاراً بيروقراطياً صارماً يركز على التخطيط الهرمي من الأعلى إلى الأسفل. كان أهم نتاج هذا القانون هو:
المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية (PDAU) على المستوى الإقليمي، الذي يرسم رؤية بعيدة الأمد للنمو العمراني.
مخطط شغل الأراضي (POS) على المستوى المحلي، الذي ينظم تفاصيل استخدامات الأراضي.
رغم أهمية هذه الأدوات، ظلت الثقافة التخطيطية تستند إلى منطق عزل وتعميم، يتجاهل تعقيدات الحياة الحضرية وتنوع النسيج الاجتماعي والحركي للمدينة. لذلك، لم تنجح هذه الأدوات في معالجة المشاكل المزمنة مثل التشظي العمراني طغيان الطابع السكني الأحادي.
مقاربة المشروع العمراني: تحوّل فلسفي وعملي
استجابةً للإخفاقات السابقة، برزت مقاربة المشروع العمراني كإطار أكثر مرونة وديناميكية، يعالج المدينة بوصفها كائناً حياً ومتغيراً. تحولت مدينة الجزائر وغيرها من المدن الكبرى إلى مختبرات لتطبيق هذه الفلسفة، عبر مشاريع استراتيجية واسعة مثل:
المشروع العمراني الكبير لمدينة الجزائر (1996–2000)
البرنامج الاستراتيجي للعاصمة (2010–2019)
مشاريع ظرفية في مدن مثل تلمسان وقسنطينة، احتفاءً بموروثها الثقافي.
في المقابل، جاءت التجربة المتعلقة بـ"المدن الجديدة" أقل نجاحاً، حيث برزت معوقات عديدة مثل التنظيم الوظيفي الأحادي، والشوارع ذات الطابع الوظيفي الجاف، مع غياب الفضاءات الحضرية النابضة بالحياة. هذا أظهر أن التجديد في الأدوات وحده لا يكفي، بل يجب أن يصاحبه تحول في الثقافة والبنية التنفيذية.
أزمة المشاركة والتحدي الأكبر: دمقرطة التخطيط
على الرغم من أهمية التحديثات القانونية والفنية، يظل التحدي الأساسي في الجزائر هو احتكار القرار التخطيطي وسوء مشاركة المجتمع المدني. المسؤولات التقليدية والبيروقراطية المتحكمة في مكاتب الدراسات الرسمية أدت إلى سيطرة مركزية من أعلى، وحولّت المشاريع العمرانية إلى أطر شكلية لا تعكس تطلعات المواطنين. غياب مؤسسات ديمقراطية محلية فاعلة أضعف أي توجه نحو المشاركة الحقيقية.
خارطة طريق نحو تخطيط تشاركي ومرن
لمواجهة هذه العقبات، يتطلب التحول العمراني في الجزائر تبني استراتيجيات تعيد للحقل التشاركي دوره الأساسي، عبر:
1-تحرير سوق الدراسات وتوسيع الفضاء أمام مكاتب وخبراء مستقلين.
2-تعزيز مشاركة المجتمع المدني والمهنيين في صياغة وتنفيذ المخططات.
3-تبني نماذج تخطيطية تشاركية مثل التخطيط التكتيكي الحضري والتركيز على مشاريع سريعة التنفيذ وقابلة للتعديل.
4-

الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في التخطيط المرن والتعاوني.
خلاصة
التجربة الجزائرية تُبرز أن تحسين التخطيط العمراني يتطلب أكثر من مجرد تحديث قانوني أو تقني؛ بل تحولاً ثقافياً عميقاً يستند إلى المشاركة الديمقراطية والمرونة والابتكار. المدينة ليست مجرد كتل مبنية بل هي نسيج اجتماعي معقد ينبض بالحياة، ويحتاج إلى فهم عميق وشفّاف لبنائه وصياغته مع مواطنيه.