خيمياء الإنسان: صهر الفرد في المجتمع
مقدمة
يقول جبرا إبراهيم جبرا في روايته (البئر الأولى): " البئر في الحياة إنما هي تلك البئر الاولية التي لم يكن العيش بدونها ممكنا، فيها تتجمع التجارب، كما تتجمع المياه لتكون الملاذ أيام العطش، وحياتنا ما هي الا سلسلة من الابار، نحفر واحدة جديدة في كل مرحلة، نسرّب اليها المياه المتجمعة من غيث السماء، وهم التجارب؛ لنعود اليها كلما استبد بنا الظمأ وضرب الجفاف أرضنا" (جبرا، 15). إنّما يصف الكاتب هنا مرحلة الطفولة، والتي هي المرحلة الأساسية لتكوين شخصية الإنسان وصفاته وإدراكه؛ حيث يسيطر الشغف عليه للحصول على أقصى حد من المعرفة عن طريق كثرة الأسئلة والتمعّن المتقن في جميع الأشياء التي تبدو غامضة وتحت مجهر الاكتشاف بالنسبة له. وفي المقابل، تصدح أصوات في عقولنا، تحاول أن تتمرد على ماهيّتنا؛ تقنعنا بأننا لسنا أنفسنا، وبأننا مأسورين في تاريخ أسلافنا. إذن، هل الإنسان هو نتاج ذاته أم نتاج المجتمع الذي يحيط به؟ ألا يتشرب هذا الطفل الفضولي أفكار المجتمع خلال رحلة الاكتشاف هذه؟ وما هو غيث السماء الذي يتجمّع في آبارنا؟ هل هي الفطرة العقلية التي يتمتع بها جميع الناس أم أسلاف الإنسان وتعاليمهم وقواعدهم؟
إن أقرب ما يمكن تشبيهه للطبيعة الإنسانية هو العمارة: أي فن تخطيط وتصميم المباني وتشييدها. إذ أن المباني تختلف في شكلها وتصميمها باختلاف الثقافة التي تتقن هذا الفن، ولكن ليس بالإمكان أن يكتسب المبنى ماهيّته دون أن يكون له أساسات تكسبه هذه الكينونة. فالأعمدة مشتركة بين جميع المباني، وكذلك قدرة الإنسان على التفكير والإدراك.

عن طبيعة الإنسان:
ومع أن قدرة التفكير والإدراك هي قوة مشتركة بين الناس، يوجد اختلاف من شخص الى آخر في طريقة رؤية الأشياء وتحليلها لتندرج في أرشيف الفكر. وهنا يوجد اختلاف ما بين الفكر والفكرة؛ فالفكر هنا يعني منظومة القيم والمبادئ والمعتقدات التي تشكّلت بفعل التجارب – التي أغلبها داخل إطار المجتمع – وطريقة رؤية الإنسان وتحليله لدروس الحياة. بالنسبة لي، إن هذا الفكر وتلك الشخصية لهما مؤثرين أساسيين: المؤثر الداخلي، المُشبع بالفضول، وهو الذي يكون بأقصى قوته في البئر الأولى ويضعف مع تقدم العمر؛ فهو المؤثر المكون لذات الإنسان. هذا المؤثر يعطي الإنسان القدرة على السيطرة على نفسه من كلّ الرغبات حتى يعتمد على عقله وروحه فقط بعد أن يغذيهما بنفسه دون التأثر من تعاليم المجتمع. ولهذا، ربّما كان الإنسان أكثر إبداعاً وأكثر تصالحاً مع نفسه في مقتبل وجوده في الحياة، وكان أكثر سيطرة على ذاته قبل أن يتم دراسته ودراسة المؤثرات الخارجية التي بإمكانها التحكم فيه كالاقتصاد، والسياسة، والدين، والقواعد الاجتماعية.
في الجهة المقابلة، ومن منطلق المؤثرات الخارجية – على الرغم من القدرة الفطرية للإنسان على التفكير والإدراك، إلّا أنه من الصعب عليه التحكم في الجانب اللاواعي فيه. والسبب في ذلك بأن اللاوعي لا يمكن أن يتشكل بطريقة مفهومة أو واضحة، فتشكيل هذا الجانب يتبلور حول دروس التجارب الشخصية والجماعية التي نخوضها والقيم التي نكتسبها من المجتمع بطريقة مبهمة لا واعية. قال وديع سعادة في رائعته (غبار): "نحن لسنا ذاتنا. نحن التاريخ محشوًا فينا. نتاج أفكار السلف، تعاليمه، قواعده، قيوده، زنزانته. التاريخ سجَّاننا وجلاَّدنا. وإن كان لهذا الجلاد حفلٌ فرح، فنحن فيه الدمى المتحركة. إن كان هذا الملك يلعب الشطرنج، فنحن بيادقه. نحن لسنا نحن، نحن هم متلبّسينا. من مات لم يمت، إنه حيٌّ فينا ونحن موتى فيه. فإن أردت أن ترى التاريخ انظرْ في وجهك، ترَ ذاكرته وكينونته، وترَ عدمك. اخلعه عنك، إن أردت أن تكون" (ذاكرة التاريخ، سعادة). ومن هنا، يرى وديع سعادة بأننا نحن أسلافنا متشكلّين في أجسادنا. إذ أننا وُلِدنا تحت وطأة كل هذه القواعد الاجتماعية التي أنشأها أسلافنا – عدا عن تلك الاقتصادية والسياسية الحديثة – فتشربناها بممارساتنا اليومية عن طريق تربية آبائنا والمجتمع لنا دون وعي منا، فيجب علينا أن نراجع أنفسنا ونحاول فهم لاوعينا لكي نصبح قادرين على معرفة ذواتنا.
خاتمة:
أود أن اختتم في القول بأن شخصية الإنسان لا يمكنها أن تتكون بالاعتماد المطلق على ذاته فقط دون مساهمة المجتمع وقواعده القديمة والجديدة، والعكس صحيح؛ فالجسد عبارة عن مزج ما بين الذات والسلف والمحيط. إلّا أن القوة تكمن هنا في نسبة اتكال الشخص على ذاته دون أن يقع في فخ التفكير من منظور خاطئ يعتمد على التأثيرات الخارجية، وهذه القوة تكون في أوج اشتعالها في مرحلة البئر الأولى والتكوين الأول. إذ أن ما يطفئ فضول الطفل لمعرفة ذاته والاعتماد عليها هو مياه المجتمع التي تقدم كل ما يريد معرفته وتعلّمه على طبق من ذهب قوانينها ومعتقداتها دون الحاجة الى استخدام العقل الشخصي والعاطفة الشخصية. وبالتالي، يغرق في محيط المجتمع حتى يصبح فقاعة صغيرة جداً في هذا الكم الهائل من مياه المحيط، فلا يتمنى حتى أن يسعى بأن يصبح ضفدعاً يغادر هذا المحيط وقتما شاء.
المصادر:
إبراهيم، جبرا. البئر الأولى: فصول من سيرة ذاتية. دار الآداب: بيروت/ لبنان.2009.