التوفيق بين الدين والفلسفة: العبقرية المنهجية لابن رشد
التوفيق بين الدين والفلسفة: العبقرية المنهجية لابن رشد

ولد القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد في (قرطبة) سنة 1126م ، وينتمي إلى أسرة أندلسية عريقة معروفة بالعلم والقضاء، فجده القاضي أبو الوليد محمد من كبار الفقهاء المالكيين الذين كان لهم أثر في السياسة المغربية، وتميزوا بالدين والعلم ، وله كتاب " المقدمات" في الفقه، أما والده أبو القاسم أحمد بن رشد قاضي قرطبة ، فكان مثل أبيه في الفضل والعلم .
نشأ ابن رشد في هذه البيئة الزاخرة بالعلم والفضل، فدرس ما يدرسه أبناء زمانه من اللغة، والأدب، والفقه، والأصول ، وعلم الكلام، فاستظهر على أبيه موطأ الإمام مالك ، وأخذ الفقه عن ابن بشكوال، وأبي مروان بن مسره وغيرهما، ودرس الرياضيات والطب وغير ذلك من علوم الحكمة على أبي جعفر ابن هارون الترجاني.
ولما بلغ ابن رشد السابعة والعشرين سافر إلى مراكش واتصل بعبد المؤمن أول ملوك الموحدين. وكان هذا الملك آخذا في إنشاءالمدارس، ومعاهد العلم والأدب، فاستعان بابن رشد على إنشائها وتنظيمها.
وظل ابن رشد في مراكش حتى مات عبدالمؤمن ، وخلفه على عرش المغرب ولده أبو يعقوب يوسف ، الذي كان أكثر ملوك المغرب حبا للعلم والعلماء. وكان الفيلسوف ابن طفيل أحد المقربين إليه، فجمع له العلماء من كل حدب وصوب.
وقد روى عبدالواحد المراكشي نقلا عن أحد تلاميذ ابن رشد خبر قدوم الفيلسوف على الخليفة، فقال حكاية عنه:
" سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب، وجدته هو وابن طفيل ليس معهما أحد ، فأخذ أبو بكر بن طفيل يثني علي، ويذكر بيتي وسلفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري. فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي، ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء- يعني الفلاسفة – أقديمة هي أم حادثة ؟، فأدركني الحياء، والخوف، وأخذت اتعلل، وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل ، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم عن المسألة التي سألني عنها".
وكان لاجتماع ابن رشد بالخليفة أبي يعقوب يوسف أثر كبير في تغيير مجرى حياته، فقد سماه الخليفة قاضيا لإشبيليه سنة 1169م، فلخص فيها كتاب الحيوان، وقال: إذا كنت قد أخطأت في بعض أقسام هذا الكتاب فمرد ذلك إلى اشتغالي بالخدمة، وبعدي عن مكتبتي في قرطبة، ولما نقله الخليفة إلى منصب القضاء في قرطبة سنة 1171م، انصرف إلى تلخيص كتب أرسطو الأخرى، بالرغم من اشتغاله بشؤون عامة لم تترك له من الوقت والحرية مايستطيع معهما إنجاز عمله.
ولما توفي أبو يعقوب، وخلفه ابنه يعقوب أبو يوسف الملقب بالمنصور سنة 1184م لقي ابن رشد على يده ما لقيه عند والده من حظوة وتكريم، وكان المنصور كأبيه محبا للعلم وأهله، فلما استدعى ابن رشد، قربه واحترمه احتراما كبيرا وأجلسه إلى جانبه.
وقد اختلف المؤرخون في أسباب محنة ابن رشد، فقال فريق: أن سبب محنته إخلاصه الحب لأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة، الذي كان المنصور يخشى منافسته على العرش، وقال فريق: أنه كان متى حضر مجلس المنصور، وتكلم معه، أو بحث عنده في شيء من العلوم يخاطبه بقوله: تسمع يا أخي. وقال آخرون: إن سبب محنته استياء المنصور لقول ابن رشد في كتاب الحيوان عندكلامه على الزرافة: رأيتها عند ملك البربر، يعني المنصور، وقد اعتذر ابن رشد عما ورد في كتابه، فقال: إنما قلت ملك البرين، فتصفحت على القارئ. ومهما يكن من أمر فإن هذه الأسباب لا تكفي لتعليل محنة ابن رشد تعليلا صحيحا، ولعلها لم تكن إلا ذريعة للإيقاع به.
ومما جاء في كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي أن قوما من حساد ابن رشد، ومناوئيه أخذوا بعض تلاخيصه، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض الفلاسفة: " فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة"، فأوقفوا أبا يوسف المنصور على هذا، فاستدعاه بمحضر من كبار قرطبة، فقال له: أخطك هذا ؟ فأنكر، فقال لعن الله كاتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه مهاناً، وبإبعاده وإبعاد من تكلم في شيء من هذه العلوم، وبالوعيد الشديد، وكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في تركها، وبإحراق كتب الفلسفة سوى الطب، والحساب، والمواقيت.
المرجع:
تاريخ الفلسفة العربية للدكتور جميل صليبا
الشركة العالمية للكتاب
الطبعة الثالثة 1995م