استثمر في ابنك: ركائز الصحة النفسية للطفل في عاميه الأولين
مقدمة من القلب:
كأم لطفلين (5 سنوات وسنتين)، لا يمكنني أن أنكر الخوف الذي يساورني عليهما، وهو شعور تشاركني فيه كل أم وأب. عندما نسمع عن حوادث مروعة تشهدها مجتمعاتنا - مثل "سفاح الإسماعيلية" وغيرها من قصص العنف - نتساءل: ما الذي أوصل هذا الشخص إلى هذه النقطة؟
الإجابة تبدأ بالبيئة التي نشأ فيها، والأفلام الدموية، والعنف الذي أصبح للأسف أسلوب حياة. أبناؤنا اليوم في أمس الحاجة إلى تحصين داخلي يبدأ بالحب والاحترام والتفاهم الأسري. هم بحاجة إلى حضن دافئ، وتعليم متوازن للصح والخطأ، والعيب والحلال، والأهم من ذلك: هم بحاجة إلى القرب من الله.
ولهذا، نبدأ معاً هذه السلسلة بعنوان: "استثمر في ابنك"، وتركيزنا اليوم على المرحلة الأهم…
المرحلة التأسيسية (من الولادة حتى سنتين): بناء الأمان العاطفي
الفترة ما بين الولادة وعمر السنتين هي الفترة التأسيسية التي تُبنى فيها شخصية الطفل وتُغرس فيها بذور شعوره بالثقة والأمان في العالم وفي نفسه.
أولاً: الركيزة الأساسية: التعلق الآمن (Safe Attachment)
يُبنى هذا الشعور بالثقة من خلال سلوكيات بسيطة وعميقة:
الاستجابة الفورية للاحتياجات:
عندما يبكي الطفل، هذا ليس "دلالاً"، بل هو إشارة واضحة لحاجة (جوع، ألم، خوف، أو حاجة للاحتضان).
رسالة الأمان: الاستجابة السريعة والمستمرة لندائه تعلمه أن عالمه آمن، وأن من يرعاه موثوق به وسيكون موجوداً دائماً من أجله.
اللمس والاحتضان المستمر:
اللمس، الحضن، والتقبيل هي اللغة العاطفية الرئيسية للأطفال في هذا العمر.
التأثير البيولوجي: هذه الأفعال تقوّي الرابطة الأسرية وتعزز إفراز الهرمونات الطبيعية للترابط والسعادة.
التناغم مع الإشارات غير اللفظية:
انتبه لإشاراته الصامتة (الصراخ بنبرات مختلفة، الهمهمة، البكاء عند الانزعاج).
القاعدة الآمنة: الاستجابة لهذه الإشارات بتعاطف تمنحه "قاعدة آمنة" يعود إليها عندما يشعر بالإحباط أو القلق.
ثانياً: التواصل وبناء اللغة العاطفية
حتى قبل أن يستطيع الطفل التحدث، فإن التواصل يدعم نموه النفسي والمعرفي:
الحديث والغناء والقراءة: التحدث إلى الطفل والغناء له بانتظام لا يعلمه اللغة فحسب، بل يجعله يبدأ بفهم عملية التواصل ككل. ابدأ بتسمية الأشياء المحيطة به.
ترجمة المشاعر: عندما يبكي الطفل أو يغضب، ساعده على فهم ما يشعر به. يمكنك القول: "أرى أنك غاضب جداً لأن اللعبة سقطت!" هذا يساعده لاحقاً على تسمية مشاعره وإدارتها بطريقة صحية.
ثالثاً: البيئة المستقرة والروتين
البيئة التي تسودها التوقعات الثابتة تقلل من قلق الطفل وتعزز استقراره النفسي:
تحديد روتين ثابت: وضع روتين يومي متسق لأوقات النوم، الوجبات، واللعب، يمنح الطفل شعوراً بالثبات ويمكنه من التنبؤ بما سيحدث، مما يقلل من القلق لديه.
اللعب والاستكشاف المُوجه: توفير وقت وحرية للعب (في الداخل والخارج) يشجع فضوله الطبيعي وحبه للاكتشاف، مما يساعده على بناء مهاراته وثقته بقدراته.
وضع حدود بسيطة وعقلانية: مع دخول الطفل مرحلة المشي وبداية استقلاليته، يجب وضع حدود واضحة (كأن نقول "لا" لأمر خطير)، مع تقديم بدائل بسيطة ومفهومة ("لا تلمس هذا، العب بهذه المكعبات بدلاً منه").
متى يجب استشارة مختص؟ (علامات تستدعي الانتباه)
في هذا العمر المبكر، قد لا تكون الاضطرابات واضحة، لكن استمرار أو حدة العلامات التالية تستدعي استشارة طبيب أو مختص في صحة الطفل النفسية:
تغيرات كبيرة ومستمرة في عادات النوم أو الأكل.
الحزن الشديد أو الانزعاج أو البكاء المتكرر لفترات طويلة دون سبب واضح.
تجنب التواصل الجسدي (عدم الرغبة في الحمل أو الاحتضان).
صعوبة شديدة في التركيز أثناء اللعب أو الأنشطة اليومية.
تجنب التواصل البصري أو عدم التفاعل مع من حوله.
فقدان مهارات كان يمتلكها سابقاً (تراجع في المهارات اللغوية أو الحركية).
