كيف تجعل الانضباط ادمانك الجديد
الإنسان كائن بطبيعته يسعى نحو اللذة والمتعة ويحصل عليها بأشكال مختلفة. في كل تصرّف نقوم به هنالك دافع خفي يسعى نحو اللذة، ولذلك…… فالإنسان مخلوق يراعي شهواته كثيرًا ولا يحاول مقاومتها ويتمسك بها، ولكن الحياة ستجبره على أن يفعل أشياء لا يحبها أو لنقل إنه هو من قرر ألا يحبها، فأصعب الأعمال قد تتحوّل إلى مصدر متعة هائل؛ لأن متعتها لا تأتي فورًا بل في الوقت المناسب. خذ مثلًا بسيطًا: تمسك أدواتك وتبدأ الرسم لساعات، تتحمل التعب والتفاصيل فقط لتصل إلى تلك اللحظة التي ترى فيها اللوحة متكاملة، أو تقضي وقتًا طويلًا لتطبخ وجبة بسيطة؛ لتستمتع بها لخمس دقائق…. هذه هي متعة الإنجاز.
مبدئيًا يا صديقي، عليك أن تقرأ المقال بالكامل إذا أردت أن تفهم الموضوع بالكامل؛ لأنك إذا خرجت من المقال باكرًا فقد يتعقد الموضوع بالنسبة لك أكثر بدلًا من أن يصبح أوضح. في هذا المقال سنتعرّف على ماهية الانضباط المهتم وكيفية التخلص من عقدة الانضباط إلى الأبد.
العنصر الأول: الفكرة المغلوطة عن الانضباط
كثيرون عندما يسمعون كلمة الانضباط يفكرون في التعب والقسوة على النفس وحرمان المتعة، ويتذكرون كذلك تلك الحلقة التي تتكرر دائمًا: تحفيز مفاجئ، ثم انطلاقة قوية، ثم تباطؤ تدريجي، والعودة إلى نقطة الصفر ومن ثم جلد الذات.
كل مرة تظن أنك ستنضبط هذه المرة، لكنها مجرد خيبة أمل أخرى. وكما قال أينشتاين: "الغباء هو أن تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا، وتتوقع نتائج مختلفة." دائمًا ما نسمع عن نصائح الخروج من منطقة الراحة، لكن في حالتنا هنا أنت لست مضطرًا للخروج منها بل أن تجعل العادات الجديدة تنتمي لمنطقة الراحة. عندما تفشل في تنفيذ ما قررته لا يجب أن تشعر بالراحة بل بالضيق؛ عندما ينتهي يومك دون إنجاز، حينها ستشعر بالتعب وليس الراحة. إذا كنت جالسًا وتغيّر وقتك بمشاهدة بعض الفيديوهات، ستشعر بضيق في صدرك وبعض الطاقة الزائدة التي لن تنفك عنك حتى تنهض وتقوم بالإنجاز؛ هكذا تصبح العادة جزءًا من هويتك. هل يمكن الوصول إلى هذا المستوى؟ ثق بي عندما أقول إنك تستطيع.
العنصر الثاني: غيّر عقليتك
أكاد أجزم أن سبب تعثرك في التغيير هو فقط طريقة تفكيرك. البيئة، التجارب، المجتمع كلها صنعت صورة سلبية في عقلك عن العمل والإنتاجية، لكن الحقيقة هي أن الانضباط ممتع؛ لأن التطور ممتع. ببساطة، الانضباط ممتع؛ لأن التطور ممتع. كيف تتحمل أن تبقى كما كنت قبل أسبوع أو شهر أو سنة؟ نفس المستوى، نفس القدرات، نفس العقلية. أنا أرى أن هذا ممل جدًا. لم ترتقِ بأفكارك، ولا في مستواك الدراسي، ولا في لياقتك. عدم التقدم، والبقاء في نفس النقطة هو الملل بعينه. التطور هو الممتع ولو كان على حساب التضحية بكل وسائل الترفيه الأخرى؛ لأن متعته ليست لحظية وسريعة، بل متعة ذات قيمة. أن تعتمد على المتعة الفورية مثل التيك توك، الفيديوهات القصيرة (scroll) لا ينتهي، ولكن اللذة الحقيقية تأتي من الإنجاز. إذا لم تكن تحقق تقدمًا ملموسًا يومًا بعد يوم، فأين المتعة في حياتك؟
العنصر الثالث: حدد هدفك بوضوح
ربما تظن أنك كسول وهو أمر صحيح لا خلاف عليه، ولكن بما أنك دخلت المقال وما زلت تقرأ حتى الآن، فهذا يعني أن لديك شرارة من التغيير بداخلك والحقيقة أنك مشتت فقط. حدّد هدفك بوضوح وسينقشع الضباب من أمام مستقبلك. كثيرون يرونها خطوة غير ضرورية، ولكنها أساسية؛ لأنك إذا بدأت من دون هدف، فستتوقف في نصف الطريق. ستقول لنفسك: لماذا أنا أفعل كل هذا حتى؟ وأين سأصل؟ وما الذي سأستفيد منه؟ لكن إذا حدّدت هدفًا مسبقًا، فهذا السيناريو لن يحصل. فاكتبه أيضًا، ولن يبقى ضبابيًا في عقلك؛ بل هدفك سيكون متجسّدًا على شكل كلمات. اجعل هدفك واضحًا وممكنًا، اجعله صعبًا….. لكن ليس مستحيلًا.
العنصر الرابع: نظرية المزرعة، لا نتائج دون وقت
كما ذكر ستيفن كوفي في العادات السبع للناس الأكثر فعالية، أي مهارة أو عادة تحتاج وقتًا للنمو؛ زرع اليوم لا يعطي ثمارًا غدًا. كذلك الانضباط؛ مهارة لا تكتسب في ليلة وضحاها. هذا يا صديقي مقال واقعي ليس مقالًا تحفيزيًا سطحيًا. لو قلت لك أنك تستطيع، فأنت تستطيع. وإذا قلت لك أنك لن تستطيع، فلن تستطيع. لن تقدر أن تتغير بسرعة، واحذر من فيديوهات التحفيز؛ فيديوهات التحفيز ليست مفيدة بشكل عام فهي تعطيك أملًا زائفًا وضغطًا نفسيًا دون أن تشعر، ثم تتركك تنهار بعد أيام؛ لذلك أرجوك كفّ عن تدمير حياتك. إذا أردت أن تتعلم مهارة معينة عليك أن تتعلم أولًا مهارة الانضباط. تحدثت عن ذلك كثيرًا؛ لأنني كنت أكثر من وقع في فخ التغيير السريع. في فترة كنت فاشلًا دراسيًا، وجربت أن أدرس أربع ساعات يوميًا فجأة دون سابق إنذار بينما أنا لم أكن أدرس أصلًا. مرت أيام ثم مللت ثم توقفت ثم بدأت ألوم نفسي. وكما قال أينشتاين: كنت مجنونًا كنت أُعيد نفس الشيء مرارًا وتكرارًا وكنت أتوقع نتائج مختلفة. لا أعلم بماذا كنت أفكر؟ كنت ألوم نفسي؛ لأنني لم أتمكن من التغيير في ليلة وضحاها، لكن كل شيء تغيّر عندما فهمت أن التغيير يستخدم تقنية العادات الدقيقة: دقيقة واحدة فقط يوميًا لكل عادة جديدة. إلى هذه الدرجة لابد أن نبدأ بشكل تدريجي؟ أجل يا صديقي، لهذه الدرجة؛ لجعل التغيير سهلًا، ثم طوره مع الوقت.
الآ لنرتقِ إلى أهم جزء من المقال، وإلى أهم خطوة والتي قد أضمن لك بأنك ستفشل إن لم تفهمها. فهمها قد يكن مستعصيًا قليلًا، لكن أنا واثق من أنك لبيب وستفهمها.
العنصر الخامس: غيّر هويتك
الهوية ببساطة هي الصورة التي ترى بها نفسك. أغلب الناس يريدون أن يغيروا حياتهم بالاعتماد على النتائج والأفعال. النتائج: مثلًا يقول أريد أن أخسر ١٠ كيلوجرامات من جسمي، والأفعال: عندما يقول سأتمرّن ٤ مرات في الأسبوع. هكذا يتوقع أن يخسر الوزن بالتمرين، النتائج والأفعال، ولكن قليل من يفكر في تغيير هويته. يقول: أنا إنسان رياضي، وهنا الفرق. النتائج هي ماذا تريد أن تحقق: خسارة وزن، حفظ كتاب، النجاح في امتحان. الأفعال هي ما الذي يجب أن تفعله: الرياضة، المراجعة، القراءة. الهوية هي من تريد أن تكون: شخصًا صحيًا، طالبًا مجتهدًا أو قارئًا نهمًا. الترتيب الطبيعي للتغيير عند الناس يبدأ بهدف، ثم يفعل أشياء، وحينها يصبح شخصًا مختلفًا، لكن الطريقة الأعمق والأقوى هي أن تصبح شخصًا مختلفًا منذ البداية؛ بعدها وحدك ستبدأ في القيام بأفعال معينة تلقائيًا، وستحقق النتائج. الهوية أقوى لأن الدماغ يحب التناسق. إذا أقنعت نفسك أنك إنسان رياضي، عقلك سيحاول دائمًا أن يتصرّف بما يتناسب مع هذه الهوية، كمثل لو عرضوا عليك أكلًا غير صحي ستفكّر: لا أنا إنسان رياضي هذا لا يناسبني. ولو جاء وقت التمرين بدل أن تسأل: سأتمرّن اليوم؟ ستقول مباشرة: أكيد سأتمرّن؛ لأن هذا ما يفعله الرياضيون. ولكي تفهم الأمر بشكل أعمق دعني أحكي لك قصة الأمير الذي جُرّدوا من والديه.
ملك فرنسا شارل السادس عشر، هذا الأمير قد جُرّد من والديه ولكي يضمنوا أنه لن يعتلي العرش، أرادوا أن يتمصّوا هويته وأرادوا أن يجعلوه فاسدًا؛ ولذلك أخذوه إلى مجتمع وعرضوه لبيئة فاسقة بامتياز. أحضروا له الخمر، وجعلوه يسمع كلامًا سيئًا، وكانوا يشجعونه على السرقة وأحضروا له فتيات عاهرات، ولكن هذا الأمير برغم كل إغراءاتهم الكثيرة لم يستسلم لها يومًا. وبعد أن استجوبوه وسألوه لماذا لم يستسلم لهذه الأمور فكلها ستشبع شهواته وكلها أمور محببة، فقال لهم ببساطة: لأنني أمير ومقدّر لي أن أصبح ملكًا وهذا غير لائق بأمير. كلهم طبعا انصدموا بهذه الإجابة البسيطة: كيف يمكن لأمر بسيط كهذا أن يجعله يقاوم كل هذه الإغراءات؟ نعم يا صديقي إنها قوة الهوية. رأى أن هويته هي الملك فببساطة مهما عرضته من مغريات، هو لن يستسلم لها؛ لأن هذا لا يليق بملك. وأنت أيضًا يا صديقي، تريد أن تخسر وزنًا؛ أنت لست مجرد شخص يتدرّب لكي يخسر وزنًا، أنت إنسان رياضي. تريد أن تحصل على علامة جيدة في الامتحان، هذا ليس شيئًا لحظيًا؛ أنت من اليوم إنسان مجتهد في الدراسة، أنت من اليوم دحيح.
وأخيرًا أريد أن أقول لك: اكتشف أسلوبك الخاص.
كل شخص لديه أسلوب مختلف، ما قد ينجح مع غيرك قد لا ينجح معك. مثلًا: عندما يقترح عليك الكثيرون في عالم تطوير الذات أساليب وتقنيات مختلفة إن لم تنفع معك، فهذا يعني أنها ليست أسلوبك. مثلًا أنا طريقة بومودورو للدراسة لا تنفعني شخصيًا. تلك الطريقة التي تقول لك أن تدرس لمدة ثم استرح من ٥ إلى ١٠ دقائق. بصراحة أنا لا أستخدمها نهائيًا لأنها تقطع تركيزي عندما أستريح، أجد صعوبة في العودة إلى التركيز مجددًا؛ لذلك عندما أدرس، فأنا أدرس بشكل مستمر وليس لدي عقلية الفترات المتقطعة والبومودورو وما غيرها.
الخلاصة هي أن الانضباط ليس حرمانًا، بل متعة مؤجلة. حدّد هدفك، غيّر هويتك وابدأ تدريجيًا وابحث عن أسلوبك الخاص؛ لأن طريقك للنجاح يجب أن يُبنى على ما يناسبك أنت.