
النسيان بين نعمة السلام النفسى و نقمة الغضب والكراهيه

النسيان يترك أثراً طيباً وآخر موجعاً
مما لا شك فيه أن النسيان نعمة عظيمة من نعم الله على الإنسان، فبه يخفف الله عن عباده ثقل الذاكرة وما تحمله من مواقف مؤلمة وتجارب قاسية. فلو بقيت الذكريات المؤذية حاضرة بكل تفاصيلها في عقولنا، لما استطعنا المضي في حياتنا بخطى ثابتة، ولتوقفت طاقاتنا عند حدود الحزن والندم. لذلك كان النسيان أحياناً دواءً للنفس، وسبباً في صفاء القلب وراحة البال.
في بعض الحالات، يترك النسيان أثراً طيباً في النفوس، إذ يساعد صاحبه على التسامح والتغافل، ويجعل قلبه نقياً كقلب الطفل الذي لا يعرف الحقد ولا يحمل غلاً لأحد. فالتناسي والتغافل ليسا ضعفاً كما يظن البعض، بل هما نوع من الحكمة والسمو الروحي، لأن من يختار أن ينسى الإساءة ويعفو، إنما يختار راحته الداخلية ويعلو بنفسه فوق صغائر الأمور.
أحياناً يكون النسيان بمثابة إعادة ضبط للروح، يمنحنا فرصة جديدة لنعيش دون قيود الذكريات الثقيلة. فكل تجربة مؤلمة نتجاوزها بالنسيان، تجعلنا أقوى وأقدر على فهم أنفسنا والآخرين. ومن يتقن فن النسيان الواعي، يعيش حياة أكثر اتزاناً ورضاً، لا يأسف على ما مضى، ولا يخشى ما هو آتٍ.
النسيان في هذه الحالة يشبه نسمة باردة تمر على جرح قديم فتخفف من ألمه دون أن تترك ندبة. يجعل صاحبه يعيش في حاضرٍ صافٍ بعيد عن غبار الماضي، ويمنحه القدرة على التجدد والتعامل مع الناس بوجهٍ مبتسم وروحٍ خفيفة. فكم من علاقات استمرت وازدهرت لأن أحد الطرفين اختار أن ينسى زلة الآخر، وكم من قلوب استقرت لأنها لم تحتفظ بالذكريات المؤلمة بل تركتها تذوب مع الأيام.
---
عندما يتحول النسيان إلى عبء ثقيل
لكن في المقابل، هناك نوع آخر من النسيان لا يترك أثراً طيباً، بل يسبب الإحراج ويهز ثقة الإنسان بنفسه. فالنسيان حين يتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية، كنسيان الوعود أو المواعيد أو الأسماء أو المهام المهمة، قد يضع صاحبه في مواقف محرجة أمام الآخرين، فيبدو مهملاً أو غير مبالٍ. ومع تكرار هذه المواقف، تبدأ الثقة بالنفس في التراجع شيئاً فشيئاً، ويشعر الإنسان بأنه غير قادر على السيطرة على ذاكرته أو تنظيم شؤونه.
هنا يصبح النسيان عبئاً لا نعمة، خاصة إذا تعلق الأمر بمسؤوليات العمل أو الدراسة أو العلاقات الاجتماعية. فهو يترك انطباعاً سلبياً لدى الآخرين، وربما يسبب فقدان فرص أو تراجعاً في المكانة.
لذلك، يظل النسيان سلاحاً ذا حدين: أحدهما يريح القلب ويمنح السلام الداخلي، والآخر يربك المواقف ويؤذي الثقة بالنفس. والإنسان الحكيم هو من يعرف متى ينسى ومتى يتذكر، فينسى ما يثقل قلبه، ويتذكر ما يعزز مكانته ويقوي شخصيته.
---
وفى الخاتمه:
فلنجعل من النسيان وسيلة للتسامح لا وسيلة للهروب، ولنتعلم أن نترك خلفنا ما يؤلمنا دون أن نفقد ذاكرتنا بما ينفعنا. فالحياة أقصر من أن نحمل أعباء الماضي، وأجمل من أن نضيعها في تذكر ما جرحنا. فلننسَ بحكمة، ونتذكر بوعي، لنعيش بقلوبٍ أنقى ونفوسٍ أكثر سلاماً.