
العملات الرقمية المركزية: درع واقٍ ضد العقوبات الاقتصادية في النظام المالي العالمي الجديد
العملات الرقمية المركزية: درع واقٍ ضد العقوبات الاقتصادية في النظام المالي العالمي الجديد
مقدمة: مشهد العقوبات المتغير
لطالما كانت العقوبات الاقتصادية سلاحًا مفضلاً في ترسانة الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لفرض السياسات外交ية دون اللجوء إلى الصراع المسلح. ويعتمد فاعلية هذا السلاح بشكل شبه كلي على هيمنة الدولار الأمريكي (USD) كنظام تسويات دولي مهيمن، وسيطرة شبكة SWIFT كشريان الحياة للتمويل العالمي. غير أن المشهد بدأ يتغير بشكل جذري. في خضم هذه التحديات، برزت العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) ليس فقط كتطور تكنولوجي طبيعي للنقود، بل كاستراتيجية جيوسياسية محتملة يمكن أن تشكل "درعًا واقيًا" ضد فاعلية العقوبات الاقتصادية، مما يعيد رسم معادلات القوة في النظام المالي الدولي.
ما هي العملات الرقمية المركزية (CBDCs)؟ تمييزها عن العملات المشفرة
لفهم الدور الجيوسياسي لـ CBDCs، يجب أولاً تمييزها بوضوح عن العملات المشفرة اللامركزية مثل البيتكوين والإيثيريوم.
العملات المشفرة (مثل البيتكوين): هي أصول رقمية لامركزية تعمل على تقنية blockchain. قيمتها تأتي من النداء والثقة في الشبكة والرياضيات، وليس من ضمانة حكومية. وهي غير منظمة في جوهرها.
العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs): هي الشكل الرقمي لعملة سيادية صادرة عن البنك المركزي للدولة (مثل الرقمي اليوان الصيني، أو الرقمي اليورو). إنها تمثل مطالبة مباشرة على البنك المركزي، تمامًا مثل النقود الورقية، ولكن في شكل رقمي. وهي مركزية بالكامل وتخضع لسيطرة وسياسات البنك المركزي والدولة المصدرة.
باختصار، إذا كانت العملات المشفرة محاولة لاستبدال النظام النقدي التقليدي، فإن CBDCs هي تحديث وتطوير لذلك النظام نفسه.
كيف تشكل CBDCs درعًا واقيًا؟ آليات المواجهة
تعمل العقوبات الاقتصادية، مثل تجميد الأصول أو قطع الوصول إلى SWIFT، من خلال التحكم في نقاط الاختناق في النظام المالي العالمي. تقدم CBDCs عدة آليات لتجنب هذه النقاط:
المدفوعات العابرة للحدود المباشرة (Cross-Border Payments): الآلية الأكثر تأثيرًا. تسمح CBDCs بإمكانية إنشاء أنظمة دفع دولية مباشرة بين البنوك المركزية للدول المتعاونة. بدلاً من إجراء معاملة بين بنك في روسيا وبنك في الصين عبر حسابات مراسلة في نيويورك باستخدام الدولار وشبكة SWIFT، يمكن للبنكين المركزيين الروسي والصيني إجراء التبادل مباشرة بين شبكتيهما من CBDCs. هذا يلغي الحاجة إلى الوسيط الأمريكي ويقلل من وقت التسوية والتكلفة بشكل كبير.
تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي (De-dollarization): تتيح المدفوعات المباشرة باستخدام CBDCs للدول إجراء التجارة bilateral بالعملات المحلية للطرفين (مثال: اليوان الرقمي مقابل الروبل الرقمي). هذا يضعف الطلب على احتياطيات الدولار كوسيط للتجارة، مما يقلل من فعالية العقوبات الأمريكية التي تعتمد على هذا الاعتماد.
أنظمة الرسائل المالية البديلة: بينما تركز CBDCs على تسوية المدفوعات، يمكن دمجها مع أنظمة رسائل مالية بديلة تم تطويرها خصيصًا لتحل محل SWIFT. المثال الأبرز هو نظام (SPFS) الروسي ونظام (CIPS) الصيني. يمكن لـ CBDCs أن تجعل هذه الأنظمة أكثر كفاءة من خلال توفير تسوية فورية وآمنة للأصول الرقمية التي يتم تبادلها.
المرونة في أوقات الأزمات: في حالة فرض عقوبات شديدة، تمتلك الدولة التي لديها CBDC ناضجة بنية تحتية دفع محلية وعالمية بديلة يمكن تفعيلها فورًا. هذا يوفر استمرارية للتبادل التجاري والمالي مع الحلفاء، مما يخفف من حدة التأثير الاقتصادي للعقوبات.
دراسات حالة: الصين وروسيا في الصدارة
الصين: الرائد العالمي. تقود الصين سباق CBDCs العالمي من خلال مشروع اليوان الرقمي (e-CNY). بينما تركز التطبيقات المحلية على دفع التجزئة، فإن الهدف الجيوسياسي واضح. تروج الصين لليوان الرقمي في مبادرات الحزام والطريق، ساعيةً لتعميم استخدام اليوان في التجارة الدولية. في سيناريو العقوبات، ستمتلك الصين أداة قوية لإجراء تبادلات مالية مع عشرات الدول شريكة المشروع، متجاوزة completamente النظام القائم على الدولار.
روسيا: رد فعل استباقي. بعد عقوبات 2014 والتضييق الشديد بعد 2022، تسارعت وتيرة تطوير الروبل الرقمي. تعلن موسكو صراحة عن هدف استخدامه في التسويات مع الشركاء، خاصة الصين وإيران والهند. يعد الروبل الرقمي حجر الزاوية في استراتيجية "de-dollarization" الروسية، وهو محاولة عملية لبناء "حصانة مالية" ضد الضغوط الغربية.
التحديات والعقبات التي تواجه "الدرع الرقمي"
رغم الإمكانيات الواعدة، فإن تحول CBDCs إلى درع فعال ليس أمرًا محسومًا، ويواجه تحديات جسيمة:
الاعتماد الواسع (Network Effects): لكي تكون فعالة في تجنب العقوبات، يجب أن تعتمد CBDCs من قبل عدد كبير من الدول الشركاء التجاريين. بناء شبكة موازية يتطلب كتلة حرجة من المشاركين، وهو أمر يصعب تحقيقه بسرعة.
التداخل بين الخصوصية والرقابة: تتيح CBDCs للبنك المركزي درجة غير مسبوقة من الرؤية والتحكم في المعاملات. بينما يمكن استخدام هذه الميزة لمكافحة غسل الأموال، فإنها تثير مخاوف كبيرة حول المراقبة المالية. قد تتردد بعض الدول في الانضمام إلى شبكة CBDC لديها سجل سيء في الخصوصية.
المخاطر السيبرانية: أي نظام رقمي مركزي هو هدف مغري للهجمات الإلكترونية. اختراق شبكة CBDC لدولة ما يمكن أن يشل نظامها المالي بالكامل.
التفاعل مع النظام المالي التقليدي: ستحتاج CBDCs إلى التعايش والعمل بسلاسة مع الأنظمة المالية التقليدية والعملات المشفرة لفترة طويلة، مما يخلق تعقيدات تنظيمية وتقنية.
رد فعل النظام المهيمن: من غير المرجح أن تقف الدول المسيطرة على النظام الحالي مكتوفة الأيدي. قد ترد بتطوير CBDCs خاصة بها (مثل مشروع "البنك المركزي الرقمي" الأمريكي في مراحله البحثية) أو بفرض عقوبات ثانوية على الأنظمة المالية التي تستخدم شبكات CBDCs لتجاوز العقوبات القائمة.
الخلاصة: نحو نظام مالي متعدد الأقطاب
لا تمثل العملات الرقمية للبنوك المركزية CBDCs مجرد تحول تكنولوجي، بل هي أداة جيوسياسية قوية بإمكانها إعادة تشكيل هندسة النظام المالي العالمي. إنها تقدم للدول التي تشعر بالتهديد من هيمنة الغرب وسيلة عملية لبناء "درع واقٍ" يخفف من وطأة العقوبات الاقتصادية ويضمن استمراريتها المالية.
بينما لا تزال التحديات التقنية والجيوسياسية قائمة، فإن الزخم المتصاعد نحو تبني CBDCs، خاصة من قبل القوى الكبرى مثل الصين وروسيا، يشير بقوة إلى اتجاه لا مفر منه: التحول من نظام مالي أحادي القطبية بقيادة الدولار إلى نظام متعدد الأقطاب، حيث تتعايش عدة عملات سيادية رقمية، وتتنافس شبكات الدفع، وتصبح العقوبات الاقتصادية، وإن لم تختفِ، أداة أقل حدة وفاعلية مما كانت عليه في الماضي. المستقبل المالي ليس بالضرورة بلا عقوبات، ولكنه قد يكون مستقبلًا تكون فيه القدرة على تحمل تلك العقوبات متاحة لأولئك الذين يستثمرون في "الدرع الرقمي".
