
آدم وحواء: حين كان الطرد من الجنة ولادة لا عقوبة
آدم وحواء: حين كان الطرد من الجنة ولادةً لا عقوبة

منذ آلاف السنين والعقول تردّد الحكاية ذاتها: أن آدم وحواء خُلقا في نعيم مكتمل، لكن زلّةً صغيرة، همسةً من حيّةٍ متربّصة، أخرجتهما من الخلود إلى عراء الأرض، وأن الطرد كان لعنةً تتوارثها الأجيال. هكذا جرى تثبيت الرواية: الإنسان كائن ساقط، والتاريخ كله عقاب طويل لخطأٍ أول .
لكن، ماذا لو قلبنا الموازين؟ ماذا لو لم يكن الطرد من الجنة عقوبة بل بداية الحرية؟ ماذا لو لم يكن الأكل من الشجرة سقطةً بل أول فعل إرادة؟
الحكاية المألوفة تقول إن الجنة كمال، لكن أي كمال ذاك الذي لا يعرف صاحبه الفرق بين الجهل والمعرفة؟ أي نعيم ذاك الذي يُمنع فيه السؤال، ويُجرَّم فيه الفضول؟ إن التفاحة –أياً كانت رمزها– لم تكن خطيئة، بل كانت مفتاح الوعي. لحظة القضم لم تكن سقطة في هاوية، بل كانت الصعود الأول نحو الإنسانية، حين خرج الإنسان من براءة الحيوان إلى دهشة الفكر.
آدم لم يُعاقب، بل كُلِّف: أن يكون خليفة في الأرض. وحواء لم تُلعن، بل أعلنت بمغامرتها أن الوجود يستحق أن يُعاش خارج الأسوار، وأن الحنين إلى المعرفة أثمن من طمأنينة الجهل. فالجنة لم تكن سوى حاضنة مؤقتة، مثل رحمٍ كوني، والولادة لا تكون إلا بخروجٍ مؤلم. ولو لم يُطردا، لبقيا مجرد كائنين في قفص ذهبي، بلا تاريخ ولا إبداع ولا موت ولا شِعر.
إن الطرد هو الذي جعل الإنسان كاتبًا وراعياً ومزارعًا وبانياً للمدن. هو الذي جعلنا نعرف الجوع فنخترع الخبز، ونعرف العطش فنستخرج الماء، ونعرف الموت فنصوغ معنى الخلود. في لحظة الخروج من الجنة بدأ العالم، لا كعقوبة، بل كمسرح للحرية.
من يقرأ النصوص بعين البلاغة يكتشف أن الطرد لم يكن نهاية القصة بل بدايتها: ﴿اهبطوا منها جميعًا﴾ ليست لعنة بل نداء سفر، إعلان بأن الأرض مسرح الإنسان، وأن الله شاء له أن يكون فاعلاً لا متفرجاً، خالقًا بمعنى أوسع من المخلوقية، مسؤولاً عن مصيره لا عالةً على نعيم مُعطى.
ولو قلبنا النظرة أكثر، لقلنا: إن الشجرة لم تكن شجرة المحرَّم، بل شجرة الاختيار. الجنة كانت الامتحان، والأرض هي الجائزة. وما سُمّي بـ"الخطيئة الأولى" كان في الحقيقة الحرية الأولى، وما سُمّي بـ"السقوط" كان الانتصاب الأول للإنسان واقفًا أمام قدره.
لهذا، لم يخرج آدم وحواء من الجنة مثقلَين باللعنات، بل محمَّلين بالدهشة، وبإرادة أن يُكملوا قصة لا تنتهي. لقد كان الطرد حدثًا شعريًا قبل أن يكون حدثًا لاهوتيًا؛ لحظة تخلٍّ عن وهم الكمال من أجل مغامرة النقصان الذي يخلق الكمال الجديد.
وهكذا، حين نعيد قراءة الحكاية، نفهم أن التاريخ كله ليس توبةً عن خطيئة، بل كتابةً ممتدة لتلك اللحظة الأولى التي اختار فيها الإنسان أن يعرف. إننا لسنا أبناء معصية، بل أبناء الحرية. ولسنا ورثة لعنة، بل ورثة سؤال أبدي يبدأ كل صباح: ماذا نصنع بالأرض التي وُهبت لنا .
لقد أُخرج آدم وحواء من الجنة كي يبدأ التاريخ لا كي ينتهي، فالأرض كانت رحم المعنى، لا ساحة العقاب.
الخطيئة لم تكن سقوطًا بل بداية السؤال، ومن هنا صار الإنسان كائنًا حرًا، يكتب مصيره بدل أن يُسلَّم له.