هل يورث الجهل كما يورث الاسم؟

هل يورث الجهل كما يورث الاسم؟

Rating 5 out of 5.
2 reviews

إلى متى سنبقى هكذا ؟

في بعض الأحيان، أسأل نفسي: لماذا في الأرياف الطباع مختلفة، والعادات مختلفة أيضًا؟ على سبيل المثال، العلاقة بين الحماة وزوجة الابن تُعتبر علاقة حربية، بمعنى أنهما يتبادلان مشاعر الكره، ولكن بصيغة غير مباشرة؛ أمام الأغراب أحباب، وفي البيوت أعداء. وذلك بسبب أن والدة الابن ترى أن ابنها أجمل الجميلين، وأن هذه البنت غير مناسبة له، وتبدأ تُعلّق على أبسط الأشياء، مثل ترتيب غرض في المنزل، وطهي الطعام، وغيرها من الأسباب غير المنطقية، التي يمكن أن تصل إلى طريقة نشر الغسيل.

وتبدأ الحكاية تأخذ طابعًا يوميًا، كأنها رقصة مشحونة بالإيماءات والتلميحات. الحماة تمر بجانب الغسيل المنشور وتقول:  

"زمان كنا ننشره بطريقة تفتح النفس، مش كده!"  

بينما زوجة الابن تبتسم ابتسامة مشدودة وترد:  

"كل زمن وله طريقته يا طنط"  

لكن خلف هذه الكلمات، هناك معركة خفية على من يملك التعريف "الصحيح"، من يُحدد شكل البيت، ومن يفرض إيقاع الحياة.

وهذا ليس الطبع الوحيد المختلف في المجتمع الريفي، بل هذا أقل شيء في الاختلاف؛ فهناك حماة وزوجة ابن هكذا في المدينة أيضًا، وهذه العداوة تنتهي مع الوقت، وخصوصًا مع تقدّم الحماة في العمر.

أما العادة الغريبة، أو بمعنى أصح المريبة، فهي: لماذا أنجبتِ بنتًا وليس صبيًّا؟ وهنا ندخل في منطقة أكثر حساسية، حيث تتقاطع الأعراف مع مفاهيم مغلوطة عن القيمة الإنسانية. في بعض المجتمعات الريفية، لا تزال ولادة الأنثى تُستقبل بنوع من الخيبة، وكأنها إعلان عن خسارة غير معلنة. تُقال العبارات بصوت منخفض، لكن وقعها عميق:  

"إن شاء الله الجاية تبقى ولد"  

"البنت ملهاش ضهر"  

“الولد بيشيل اسم أبوه”

وتكبر البنت في هذه العنصرية، وهي حاقدة على قريبها، أخوها الأصغر، أي ولد في العيلة. وللأسف الشديد، العنصرية في الريف لا تتوقف عند الجنس فقط، بل لون البشرة أيضًا؛ حيث البنت البيضاء تتزوج من تريد بسهولة وبكل فخر، أما السمراء أو القمحاوية، لا يتقدّم لها سوى القليل، وإذا رفضت أحدهم، يُقال:  

“عايزة تعنسي جنبنا ولا إيه؟ مفيش رفض! هوّه تفتكري حد هيتقدملك ببشرتك دي؟”

وتكبر البنت وهي تحمل على كتفيها عبء المقارنات، لا لأنها اختارت، بل لأن المجتمع اختار أن يُحمّلها ما لا يُحتمل.  

تتعلّم أن تُخفي غضبها خلف ابتسامة، وأن تُراكم خيباتها في قلبها، كأنها مدّخرات لا يُسمح لها بإنفاقها.  

تسمع كلمات تُقال وكأنها مزاح، لكنها تعرف أنها ليست كذلك:  

"دي وشّها مش فاتح، بس قلبها أبيض"  

"يعني مش واو، بس بنت ناس"  

وكأنها تُعرض في مزاد غير معلن، تُقيّم فيه حسب لونها، صوتها، وحتى طريقة مشيها.

ويزيد الطين بلّة، إنهم ما بيكتفوش بالحكم من بعيد، لأ، بيدخلوا في اللي ملهمش فيه، وكأن الخصوصية رفاهية مش من حقها.  

تلاقي واحدة لسه متجوزة، ولسه بتتعلّم تبني بيتها، ييجوا يسألوها بدون حياء:  

"هو بيبات معاكي كل يوم؟"  

"بتطبخيله ولا بتطلبوا دليفري؟"  

وكأنهم بيعدّوا عليها أنفاسها، مش بيباركوا لها على بداية جديدة.

ومع كل ما قيل، يبقى أن نُقرّ بأن هذا الحديث لا يصف المجتمع الريفي كله، بل فئة محدودة من غير الأسوياء، الذين اختاروا أن يُورّثوا التمييز بدلًا من الرحمة، والهيمنة بدلًا من الاحترام.  

فالمشكلة ليست في الريف، بل في العقول التي لم تُروَ بالوعي، وظلت تُكرّر ما ورثته دون أن تسأل: هل هذا عدل؟ هل هذا إنصاف؟

وما بين الغسيل المنشور، واللون المُقارن، والجنس المُفضّل، تتشكّل حياة كاملة من الصراع الصامت، لكن الأمل دائمًا في من يرفض أن يُكمل الدائرة، ويختار أن يبدأ من جديد.

وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله:  

“إذا أردتَ العُلا فأهجر القُرى، فإن الحقد في الأرياف ميراث.”

كلمة تُورّث قد تُطفئ نورًا، وكلمة تُراجع قد تُنقذ حياة. فليكن ما نورّثه هو الوعي، لا الجهل.

image about هل يورث الجهل كما يورث الاسم؟
comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

1

followings

1

followings

0

similar articles
-