غسان كنفاني رصاصة من المداد في صدر الاحتلال

غسان كنفاني رصاصة من المداد في صدر الاحتلال

0 المراجعات

غسان كنفاني كان روحًا تتوهج في ظلمة النكبة الفلسطينية، يحمل قلبًا نابضًا بأحلام وطن ضائع، وعقلاً مفعمًا بحساسية الأدب وعمق الفكرة. وُلد في عام 1936 في عكا، تلك المدينة الساحلية التي شهدت بدايات مأساة شعبه، حيث اجتاحت القوات الصهيونية عام 1948 قريته وأخرجته وأسرته من ديارهم. تلك اللحظة لم تكن مجرد طرد من الأرض، بل كانت ولادة لفنان وثوري، إذ بدأت رحلة طويلة من النضال بالكلمة والدم والدموع.

في منفاه ببيروت، لم يكن غسان مجرد كاتب أو صحفي، بل كان صوت الشعب الفلسطيني الحي، ينقل معاناة اللاجئين، ويحوّل الألم إلى روايات وقصص قصيرة تتسلل إلى أعماق القارئ، تزرع في نفسه وعياً بالقضية الفلسطينية. كان يكتب بدمه وقلمه، يبحث عن عدالة ضائعة في صفحات الكتب، ويدافع عن حق العودة عبر كلمات تلهب الحناجر. كما قال ذات مرة: «إنّ الكلمة هي سلاحنا الأول في مواجهة الاحتلال، ولن نستسلم مهما حاولوا إسكاتنا».

لم يكن غسان راضيًا فقط بأن يروي الحكايات، بل كان يريد أن يحيي الذاكرة الجمعية لشعبه، أن يحفر بصمات المقاومة في وجدان الأجيال القادمة. عبّر عن هذا بقوله: «الذاكرة هي عنواننا، والتاريخ هو قضيتنا، ولن نتخلى عنهما مهما كلفنا الثمن».

مع مرور الزمن، نمت في قلبه فكرة أن النضال لا يقتصر على السلاح وحده، بل هناك سلاح الكلمات، الفكر، الثقافة التي يمكنها أن تبني وتحرر. أسس مع رفاقه "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ليكون صوت الثورة في الميدان وفي الصفحات. من خلال مؤلفاته مثل "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا"، استطاع أن يرسم صورة حقيقية للنكسة الفلسطينية، تظهر الألم الإنساني أكثر من السياسة الباردة، وتكشف عن وجع الضياع والحنين والخيبة. في إحدى مقولاته الشهيرة، قال: «ليس من الممكن أن تتحرر الشعوب إلا بوعيها، والوعي يأتي بالمعرفة وبالقراءة».

كان غسان يختلط مع الناس، يتنقل بين مخيمات اللاجئين، يستمع لقصصهم ويكتب عنها، فلا يجد في القصص فقط موضوعًا بل حياة تملأه بالعزم على الاستمرار. لم يكن مجرد أديب أو ناشط، بل كان فارسًا حمل الأمل في زمن القهر، أراد أن يُذكّر العالم أن هناك شعبًا لم يمت بعد، وأن التاريخ لن ينسى من عانوا ولا من قاوموا. وفي ذات مرة، عبر عن هذا قائلاً: «النكسة لم تكن نهاية الطريق، بل بداية لمرحلة جديدة من الصراع والنضال».

رغم كل المخاطر، ظل صامدًا أمام محاولات الاغتيال والترهيب، مستمرًا في مسيرته رغم ثقل الحزن على كتفيه، حتى جاء عام 1972، حيث استشهد غسان في انفجار قنبلة زرعت في سيارته في بيروت، تاركًا وراءه إرثًا ثقافيًا وإنسانيًا ضخمًا. لكن الموت لم يكن نهاية قصته، بل كان بداية لأسطورة حقيقية، قصة رجل لم يمت بدمائه، بل بقى حيًا في قلوب ملايين الفلسطينيين والعرب، يحكي لهم كل يوم عن نضال لا ينتهي وعن حلم يعود. قال ذات مرة: «الشهيد لا يموت، بل يعيش في قلوب أصدقائه وشعبه».

غسان كنفاني علمنا أن الكلمة أقوى من الرصاص، وأن الأدب يمكن أن يكون مقاومة، وأن الإنسان مهما ابتُعد عن أرضه، يمكنه أن يحمل وطنه في قلبه وعقله وروحه، ويجعل منه قصة تتكرر وتلهم كل من يؤمن بالحرية والكرامة. كانت حياته، رغم قصرها، ملحمة كتبها بنفسه بكل فخر، ملحمة تذكرنا أن النضال ثقافة، وأن لكل جرح فلسطيني هناك قلم لا ينكسر. كما قال في إحدى لحظاته المؤثرة: «لن نستسلم مهما كان الثمن، فالقضية أكبر من الجميع، وهي قصة أمة لا تعرف الاستسلام».

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

5

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة