السامري والعجل الذهبي .
السامري: دراسة تحليلية في الانحراف العقدي وصناعة الوثن داخل الجماعة المؤمنة
مقدمة: السامري كتحذير قرآني دائم
لا يقدّم القرآن الكريم قصة السامري بوصفها حادثة تاريخية منتهية، وإنما يعرضها باعتبارها نموذجًا إنسانيًا متكررًا، يحمل في طياته تحذيرًا بالغ العمق من أخطر أنواع الفتن، وهي الفتنة التي تنشأ من داخل الجماعة المؤمنة نفسها. فالسامري ليس عدوًا ظاهرًا، ولا طاغية معلنًا، بل شخصية متخفية، تعمل في الظل، وتستثمر المقدس، وتعيد تشكيل الانحراف في صورة تبدو للناس مألوفة ومطمئنة. ومن هنا جاءت خطورته، وجاء خلوده في النص القرآني رغم قلة الآيات التي ذكر فيها، لأن العبرة ليست في حجم الذكر، بل في كثافة الدلالة.
السياق القرآني لظهور السامري في سورة طه
جاء ذكر السامري في سورة طه ضمن سياق متكامل يبدأ بالحديث عن رسالة موسى عليه السلام، وعن معاناته مع فرعون، ثم ينتقل إلى لحظة الخروج والنجاة، قبل أن ينقلب المشهد فجأة إلى فتنة داخلية عنيفة وقعت في غياب القائد. هذا الانتقال السريع من النصر إلى الانحراف يكشف حقيقة نفسية عميقة، وهي أن الجماعات التي لم يُبْنَ إيمانها على وعي راسخ تظل مهددة بالانهيار حتى بعد أعظم الانتصارات. فالسامري لم يخلق الفتنة من العدم، بل وجد أرضًا خصبة مهيأة، فزرع فيها بذرة الوثنية من جديد.

البيئة النفسية لبني إسرائيل بعد الخروج من مصر
عاش بنو إسرائيل قرونًا طويلة في ظل نظام فرعوني قائم على القهر والاستعباد وتقديس الرموز المادية، وقد ترك هذا التاريخ الثقيل أثرًا عميقًا في نفوسهم، لم تمحه معجزة العبور ولا هلاك فرعون. فالتحرر الجسدي لا يعني بالضرورة تحرر العقل، والخروج من أرض العبودية لا يعني الخروج من ثقافتها. ولهذا ظل الحنين إلى الملموس حاضرًا في وجدانهم، وظلت الحاجة إلى إله يُرى ويُلمس أقوى من قدرتهم على الصبر على الغيب، وهو ما استغله السامري بذكاء بالغ.
السامري: النشأة والدور الغامض داخل الجماعة
لم يذكر القرآن أصل السامري ولا نسبه، وهذا الإغفال مقصود في ذاته، لأنه يوجّه النظر إلى الفعل لا إلى الشخص، وإلى الدور لا إلى الهوية. فالسامري في جوهره نتاج بيئة مضطربة، تشكّل وعيه في لحظة انتقالية حساسة، واكتسب قدرة على قراءة النفوس واستغلال نقاط ضعفها. لم يكن السامري قائدًا ظاهرًا، لكنه كان صانع رأي خفي، يتحرك بهدوء، ويزرع الشكوك، ثم يقدّم الحل الجاهز في اللحظة المناسبة.
صناعة العجل الذهبي: من الغنيمة إلى الوثن
حين طلب السامري من بني إسرائيل أن يخرجوا ما معهم من ذهب، لم يكن ذلك طلبًا عشوائيًا، بل كان استدعاءً واعيًا لأقوى رمز مادي في النفس البشرية. فالذهب عبر التاريخ رمز للقيمة والخلود والسلطة، وحين يتحول إلى مادة مقدسة، فإنه يعيد إنتاج الوثنية في أبهى صورها. العجل الذي صنعه السامري لم يكن مجرد تمثال، بل كان إعادة بعث لرمز قديم متجذر في الذاكرة الفرعونية، حيث ارتبط العجل بالقوة والخصوبة والاستقرار، وهو ما جعل الناس تنقاد إليه بسرعة مذهلة.
الخوار كأداة للانبهار وتعطيل العقل
وصف القرآن العجل بأنه جسد له خوار، وهذا الوصف يحمل دلالة نفسية عميقة، لأن الصوت هنا ليس معجزة، بل أداة إبهار حسي تهدف إلى تعطيل التفكير النقدي. فالإنسان حين ينبهر بالحواس يتراجع العقل خطوة إلى الخلف، ويصبح أكثر قابلية للتصديق والانقياد. لقد قدّم السامري لبني إسرائيل إلهًا يتكلم، أو على الأقل يصدر صوتًا، في مقابل إله غائب لا يُرى، فمالوا إلى ما يلامس غرائزهم الأولى.

ادعاء المعرفة الخاصة في قول السامري
حين واجهه موسى عليه السلام، قال السامري عبارته الشهيرة إنه أبصر بما لم يبصروا به، وهذه الجملة تكشف البنية النفسية العميقة للشخصية، حيث تتجلى عقدة التفوق، ووهم الاصطفاء الذاتي، والاعتقاد بامتلاك سر لا يعرفه الآخرون. هذا النمط النفسي يتكرر في كل العصور، لدى من يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة، ويحتقرون وعي الجماعة، ويبررون انحرافهم بزعم الرؤية الخاصة.
أثر الرسول بين التفسير الحرفي والرمزي
تعددت أقوال المفسرين في معنى أثر الرسول الذي قبضه السامري، لكن الجامع بينها أن السامري لم يأتِ بفكرة من خارج الدين، بل استولى على أثر من آثاره، ثم حرّفه عن موضعه. وهذا هو أخطر أشكال الانحراف، لأن الباطل حين يتزيّا بزي الحق يصبح أكثر قبولًا، وأشد فتكًا بالعقول. لقد أخذ السامري من المقدس ما يمنحه الشرعية، ثم أسقطه على صنم، فجمع بين الشكل الديني والجوهر الوثني.
موقف هارون عليه السلام وإشكالية القيادة في زمن الفتنة
يقف هارون عليه السلام في قلب هذه القصة موقفًا معقدًا، إذ حاول النصح والإنكار، لكنه خشي الانقسام والاقتتال الداخلي. هذا الموقف يكشف مأزق القيادة حين تواجه فتنة شعبية واسعة، ويطرح سؤالًا عميقًا حول حدود الحكمة وحدود الحزم. فالسكوت عن الانحراف قد يُفهم أحيانًا بوصفه تواطؤًا غير مباشر، لكنه في الوقت ذاته قد يكون محاولة لتقليل الخسائر في انتظار عودة القيادة العليا.
عودة موسى وغضبه على الانحراف العقدي
غضب موسى عليه السلام عند عودته لم يكن غضبًا شخصيًا، بل كان غضبًا نابعًا من إدراكه لخطورة ما حدث، لأن الانحراف العقدي في نظر الأنبياء أخطر من الظلم السياسي أو القهر الاجتماعي. فالعقيدة هي الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، وإذا فسد الأساس انهار البناء كله، مهما بدا قويًا في الظاهر.

عقوبة السامري ودلالتها الاجتماعية والنفسية
جاءت عقوبة السامري متمثلة في العزلة والنبذ الاجتماعي، وهي عقوبة تحمل دلالة عميقة، لأن من أفسد الجماعة من داخلها يُعاقَب بإخراجه من نسيجها. لقد حُرم السامري من التواصل، ومن التأثير، ومن القدرة على صناعة الفتنة مجددًا، وسقط رمزه سقوطًا مدويًا أمام أعين من انخدعوا به.
السامري كنموذج متكرر في التاريخ الإنساني
لا ينتهي السامري بانتهاء قصته، بل يتكرر بأشكال مختلفة في كل عصر، مرة في صورة دجال ديني، ومرة في هيئة أيديولوجي متطرف، ومرة في ثوب زعيم يُقدَّس، لكن الجوهر واحد دائمًا، وهو صناعة الوثن من داخل الوعي الجمعي، وتقديمه بوصفه الخلاص.
خاتمة: لماذا يظل السامري حيًا في الوعي القرآني
أراد القرآن من قصة السامري أن تبقى حيّة، لا لكي نلعن شخصية تاريخية، بل لكي ننتبه إلى الآلية التي تصنع الانحراف، ونراقب أنفسنا قبل أن نصنع عجلنا الخاص، ونمنحه صوتًا، ثم نسجد له ونحن نظن أننا نحسن صنعًا.