
شخصية جحا، جوهرة، تدعى ملكيتها أكثر من أمة على وجه الأرض
ما أكثر ما نسمع من نوادر جحا..! وما أكثر ما سمعنا من هذه النوادر من الجدات! وهن يمتعن طفولتنا بحكاياهن، وأناملهن الناعمة تمسح رؤوسنا ونحن نقاوم النعاس، لنسمع الجديد من نوادر جحا.
والعجيب أن شخصية جحا، جوهرة، تدعى ملكيتها أكثر من أمة على وجه الأرض .. والذين يدعون هذه الملكية، وينافحون عن كل من يشكك فيها بوثائق ومستندات لو أنها تعرض على القضاء، لما وسع المحكمة إلا أن تحكم بصحة الدعوى.. وبهذا لا بد أن يواجه جُحا مصيراً عجيباً.. أقل ما فيه أن يجد نفسه على بساط الريح، ليثبت وجوده، في العالم العربي، حين يحكم به للعرب، وفي تركيا حين يحكم به للأتراك، ثم في إيران حين يحكم به للفرس.. ولا يكاد يستريح هنا أو هناك، حتى يجد نفسه طائراً إلى إيطاليا.
وهو في كل بلد من هذه البلدان، وفي غيرها مما لا يقع تحت حصر، يجد في استقباله والترحيب به جمهوراً كبيراً، يجمع بين الأطفال، والصبية، والفتيات، والصبايا، والرجال، والنساء، شباناً وكهولاً، وعجائز حنى ظهورهم الزمن، ولا يسعهم أن يقفوا للترحيب به إلا على عكاكيزهم، وفي وجوههم اللهفة على رؤياه، والفرحة بلقائه.
وبساط الريح الذي لا يسع جحا إلا أن يرتفقه ليثبت وجوده هنا وهناك، يمكن أن يهبط به، فجأة، في تيه من صحراء، أو دغل في غابة، ويضيع المسكين، إلى أن تسعف الريح بساطه، فينتقل إلى حيث يجب أن يكون ..
ومن هذا الاحتمال – احتمال الضياع في التيه أو الغابة – كان لا بد أن يقوم محبوه، والمدعون ملكيته، بالبحث عنه .. وليس أسهل من ذلك في هذه الأيام، مع البوينج والكونكورد، والهيلوكوبتر، ومختلف وسائل الطيران بين الأرض والسماء.. وفي أعماق البحر، أو حتى في أجواز الفضاء.
والأرجح، أن العرب، سيسبقون غيرهم في البحث عنه، فإذا حدث أن ظهر من يدعى ملكيته حتى في التيه والغابة، فإن من وثائق ملكيتنا لهذه الجوهرة النادرة ما حكاه (الجاحظ) الذي ذكره، وقال أن اسمه (نوح) وكنيته (أبو الغصن) وزعم أنه عمَّر، فأربى على المئة سنة، واستشهد ببيت للشاعر القرشي، عمر بن أبي ربيعة، الذي قال..
" دلهت عقلي، وتعلبت بي *** حتى كأني من جنوني (جُحا)".
وفي مجمع الأمثال للميداني الذي توفي عام خمسمئة وثمانية عشر، مثل طالما تردد على ألسنة الناس فيقال .. (أحمق من جُحا) .. وقال الميداني: إن جُحا هذا، رجل من فزارة، وكان يكنى (أبا الغصن).
وفي كتاب (أخبار الحمقى والمغفلين) لابن الجوزي الذي توفي في عام خمسمئة وسبعة وتسعين جاء اسم (جُحا) وقال ابن الجوزي أن كنيته ( أبو الغصن) وقدروى عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أن الغالب عليه (التغفيل).
وتتوالى من خزانة المصادر العربية الأخبار التي تؤكد عروبته، إذ نجد له ذكراً في (القاموس) وفي كتاب (حياة الحيوان) الكبرى للدميري، وفي لسان الميزان لابن حجر..
ومن هذه المصادر نجد أن جُحا، قد ولد في منتصف القرن الأول الهجري وعاش حتى منتصف القرن الثاني الهجري فهو قد أدرك أبا جعفر المنصور .. وله نادرة مع أبي مسلم الخراساني، ونادرة مع المهدي.
ولكن لا نكاد، نقدم هذه الوثائق إلى المحكمة، واثقين من صدور الحكم لنا، حتى يقف محامي الطرف الآخر فيطعن في صحة هذه الوثائق، ويكاد ينسفها من أساسها ولا يطول بنا الوقت، حتى نجد أنفسنا نحن، ومعنا المدعون الخصوم، في تيه لا أول له ولا آخر.. وتنتهي آخر الأمر إلى الاكتفاء، بما تؤكده الجدة عن عروبته إذا كانت عربية، وعن تركيته إذا كانت تركية.. ويكتفي الخصوم أيضا بما تؤكده الجدة الإيطالية، أو الفارسية أو الهندية .. ولا بد لنا أن نقول .. فليكن جُحا من أي جنسية شاء .. وحسبنا ما نسمع من نوادره وظرفه، وذكائه أو تغفيله، وفطنته أو غبائه.
وقيل لجُحا ذات مرة. ( أمرك عجيب .. يطلب منك جيرانك شيئاً، يكون في متناول يدك فلا تعطيهم إياه إلا في اليوم الثاني ..
فقال جحا.. ( افعل ذلك ليعرفوا قيمة ما أعطيه ما داموا محتاجين إليه).
ذهب إليه أحد الأعراب بناقة أصيبت بالجرب، وطلب منه أن يقرأ له عليها لتشفى .. وتظاهر جحا بأنه يقرأ شيئاً وينفخ على الناقة.. ثم عندما فرغ قال للأعرابي.. لا بد لك أن تضيف إلى ما قرأته عليها، شيئاً من القطران.
تجمع حول جُحا، بعض من يناكفونه .. وسأله أحدهم .. إنك تدعي العلم، فهل تستطيع أن تقول لنا .. (كم ذراعاً مساحة الدنيا ؟؟؟) .. وكانت تمر بهم جنازة، فقال لهم ..( اسرعوا إليه فعنده جواب سؤالكم .. فقد ذرع الدنيا منذ دخلها ، إلى أن خرج منها ..).
سأل أحدهم جُحا .. أيهما أفضل يا جُحا.. المشي خلف الجنازة أم أمامها ؟؟ فقال جُحا: ( لا تكن على النعش .. وامش حيث تشاء..).