
ماذا تعرف عن الموسيقار موزارت ؟
كان أبوه موسيقاراً، ومدرساً للموسيقى، وعازفاً على الكمان، أهلته براعته للعمل كعازف، في إبرشية سالزبيرج في النمسا، وقد رزق من زوجته أنا ماريا سبعة أطفال من ذكور وإناث، مات خمسة منهم أطفالاً ، ولم يعش سوى ابنه (موزارت) وابنته (ماريا).. وإذاكان الابن قد حظى بكل حجم الشهرة التي أضفتها عليه عبقريته التي جعلت تتفتح وتنمو منذ نعومة أظفاره، فإن أخته (ماريا) لم تكن تتخلف عنه كثيراً، وعلى الأخص حين كانت براعتهما معاً، أعجوبة مذهلة يزيد في احتدام الإعجاب بها أنهما لم يكونا أكثر من طفلين.. وكان أول المأخوذين بنموهما المبكر أباهما (ليوبارد موزارت) ، إلى حد حفزه إلى أن يقدمهما إلى البلاط الملكي في ميونيخ.
إما أن موزارت، كان أعجوبة، ومخلوقاً خارقاً للعادة، فحقيقة لم تذهل الأب، ومن حوله من أصدقائه وزملائه فحسب، وإنما هي ما تزال حتى اليوم تذهل كل من يحاول أن يتصور طفلاً في الرابعة من عمره، يحاول أن يؤلف مقطوعات موسيقية، ثم حين يبلغ السادسة من العمر، يعزف على البيان القيثاري ببراعة خارقة للمألوف، ليس فقط بالنسبة لمن هم في سنه، وإنما بالنسبة للمهرة من كبار العازفين..
وأما إن هذا العبقري الفلتة قد وجد في الحياة، كفاء عبقريته، رخاء في العيش ودعة في درب المسيرة، ونجاة من الصخور والأشواك، فهو ما يضعنا أمام واقع يكشر عن توحشه وصفاقته إذ يؤكد لنا، عجز الحياة السرمدي عن التفاعل والقدرة على الرقى إلى الذرى السامقة التي يحلق فيها الفن والجمال..
كان في الرابعة يحاول أن يؤلف مقطوعاته الخاصة، وكان في السادسة يظهر براعته في العزف على البيان القيثاري، وكان مع أخته (ماريا) ثنائياً نادراً في تاريخ الفن..
عزفاً في بلاط ميونيخ، ثم اعتليا المنصة في بلاط إمبراطور النمسا، فيسمعهما الإمبراطور وتسمعهما الإمبراطورة ، ويصفقان لهما مع أكابر رجال الدولة في فينا مما كان خليقاً بأن يفسح لهما المجال، بل ولأسرتهما كلها إلى الثروة والجاه، إلى جانب الشهرة وذيوع الصيت.. ولكن ما أشد ما تتمزق مشاعر الفنان وأحاسيسه ! وما أشد ما يتفجر به وجدانه من حريق الحسرة! وهو لا يرى غير مخالب العوز والفاقة تنهش وتذرو مع الرياح السافية كل أمل في السعادة والاستقرار.
والذين أرخوا سيرة حياة موزارت، لا يعفون أباه من بعض اللوم، إذ يأخذون عليه أنه ما كاد يرى نبوغ ابنه الطفل، حتى أخذ يستغل هذا النبوغ ليس بدافع الإعجاب به والفخر بعبقريته ، وإنما بدافع استثمار الظاهرة التي أدرك أنها سبيله إلى ما كان يحتاجه من المال.. فقد كان يجدر به أن يتعهد موهبة ابنه وبنته بالرعاية والحنان ، وأن يوفر لهما ما تحتاجه الطفولة من الاهتمام بالتربية والنمو إلى جانب إفساح المجال وتهيئة الظروف التي تساعد على تكامل التكوين الفني ونضوجه في فسحة من الزمن تتناسب مع السن الغضة ، والبنية الهشة، ولكنه عوضا عن كل ذلك، اندفع يلتمس الوسائل إلى عرض الظاهرة، في طول أوروبا وعرضها يتنقل مع الطفلين من بلد إلى بلد ومن قصر إلى قصر، حيث تلتهب أكف النظارة والمستمعين بالتصفيق ، كما يلتهب أمل الأب في الثراء الذي لم يتحقق قط، إذ لم يكن العرض بالنسبة لمن يشاهدونه من الأمراء والألمان يستحق أكثر من هذا التصفيق ، ينتهي بوجبة لعشاء على الموائد الفاخرة، وليس بعد ذلك، غير الكثير من كلمات الاستحسان والإعجاب.
ومع هذا الترحال المتواصل، ومشاقه في الطرق الوعرة، بين كل مدينة وأخرى، كان من الطبيعي أن يتوقف عطاء العبقرية البكر، أو أن تتوقف حوافز الإبداع في نفس الموسيقار الصغير ولكن يبدو أن العبقرية هبة ونفحة تتجاوز كل المعوقات، فلا سبيل إلى أن يعطل تدفقها ما يعترض سبيلها من الصخور والأشواك.. وهكذا كان موزارت ، أعجوبة إنسانية، في طفولته وشبابه على السواء، أعجوبةلم تعترف قط بالحواجز التي ظلت تطوق حياته، فلا الفقر، إلى حد الجوع، ولا عدم الاستقرار ، ولا جفاف العاطفة التي ترعاه، استطاع أن يحول دون مواصلة إبداعه، في أعمال موسيقية ظلت تتضخم وتتنوع، لتضارع كبريات الأعمال التي قدمها الكبار قبله، وفي عصره، وفي مقدمتهم (هايدن).. وباخ، وكل منهما كان قمة من القمم الشامخة في أوروبا.
هايدن.. الذي كان موزارت ، لا يخفى تقديره له وتأثره بفنه، لم يجد غضاضة في أن يقول لوالد موزارت (ليوبولد).. (أني لأشهد أمام الله، وكرجل شريف أن ابنك، هو أعظم مؤلف عرفته شخصياً أو سمعت عنه.. عنده الذوق الفني، وفوق ذلك، عنده أعمق المعلومات عن الفن..).. ولئن كانت هذه شهادة أستاذ طار صيته في أوروبا، فإن ماهو أعجب من هذه الشهادة، إن هذا الأستاذ، قد تأثر بفن موزارت، إذ يقول النقاد أن أكثر من رباعية (كارتيت) من رباعياته، ظهر فيها تأثير موزارت إلى حد بعيد.
وإذا كان إعجاب هايدين وتأثره بفن موزارت يمكن أن يعلل بالصلة التي كانت قائمة بينهما، فإن صف العباقرة الكبار الذين جاءوا بعده، وما يزالون حتى اليوم يحتلون مقاعد العمالقة في تاريخ الفن، لم ينكروا تأثرهم بالموسيقار العبقري إذ نجد بيتهوفن نفسه يدرس مؤلفات موزارت، ونسمع النقاد يؤكدون أن شوبان كان متأثراً في أعماله بأعمال موزارت.. حتى لقد طلب وهو على فراش الموت، أن يعزفوا له مقطوعة من موسيقى موزارت.. وحتى براهمس نقل عنه أنه قال: ( موزارت .. ذلك العملاق الذي لا ينسى ..) وحتى فاغنر، وهو من عرف بالشموخ والاستعلاء والغرور، لم يملك إلا أن يحنى رأسه إجلالاً للإنسان الذي " خلق للموسيقى".
إن الأعمال الموسيقية الضخمة التي وضعها موزارت، تحتاج إلى كتاب، أو إلى موسيقار يدرسها ويحللها، ويعرف مكامن الجمال والروعة فيها.. هناك الكثير من الأعمال التي تعرف في الموسيقى الغربية بـ (الأوبرا).. ومنها أوبرا ( دون جوان) التي فرغ من كتابة ( افتتاحيتها) قبيل رفع الستار في براغ.. وقد استطاع العازفون أن يؤدوها أداء متقناً رغم أنهم لم يتمرنوا عليها إلا في اللحظة التي وضعها موزارت أمامهم، ومدادها لم يجف بعد .. وقد بلغ من إعجاب النظارة بها أن استعادوا بعض المقاطع عدة مرات في تصفيق حاد متواصل.. وقد انقذت عوائد الحفلة صاحب الدار من إفلاس محقق.. أما موزارت ، صاحب هذه الأوبرا، وقائد الأوركسترا، والذي صفق له المعجبون واستعادوا بعض مقاطعها عدة مرات بحيث استمرت الحفلة ست ساعات بدلا من ثلاث، موزارت هذا، لم يأخذ إلا مبلغا ضئيلاً تافها، لعله لم يساعد على الإنفاق على أسرته أكثر من ثلاثة أيام..
عندما توفي موزارت، كان قد بلغ الخامسة والثلاثين من العمر.. وقبل وفاته بسنة واحدة وعلى فراش مرضه وضع أوبرا بعنوان ( الناي السحري).. وأخرجها أحد المحتالين على مسرح متداع في حي من الأحياء الفقيرة.. وكان هذا جديرا بأن يغمر الأوبرا بحيث لا يلتفت إليها أحد .. ولكنها سرعان ما اشتهرت، وتناقل المجتمع أخبارها، فخف الناس لمشاهدتها وبلغ من نجاحها والإقبال عليها، أن المخرج استطاع أن يشيد من دخلها مسرحا جديدا.. وكالعادة كان نصيب موزارت من هذا النجاح والمال الذي تدفق على المخرج مبلغا ضئيلاً أنفقه على العلاج من التيفوئيد الذي حال دون حضوره إخراج عمله العظيم.
مات العبقري.. وهكذا دفن.. وما يزال العالم حتى اليوم، يعزف أعماله ويصغى إليها وينسى الذين يصفقون له أنه لم يجد حتى الحفرة التي يدفن فيها كإنسان..