في مجال الأدب في العصر الحديث قامت حركة الإصلاح على جهود أجيال شعراء الإحياء والمترسلين من الأدباء، ثم طبقة المحافظين في مصر، ورصفائهم في سائر البلاد العربية، تربط أسبابها بأزهى عصور التراث، تستحييه وتستلهمه وتطبق قواعده ومعاييره. وحين حاول فريق آخر من المجددين، وأكثرهم من مسيحيي الشام ومهاجرتهم إلى البلاد العربية والغربية، التجديد في فنون الأدب العربي وأساليب ا لأداء الشعري، متأثرين في ذلك بآداب الغرب وشعرهم الذي يقو على الشعر المقطعي – ما كان لهم إلا أن يرجعوا إلى أصول هذا الشعر في التراث العربي الوسيط، يبعثون مزدوجاته ومسمطاته وموشحاته ويجددون في أشكاله، وهو ما كتب لحركتهم الرواج في المجتمعات العربية.
ولم يكن انصراف جماعات التقليدية الحديثة عن محاكاة الآداب الغربية واحتذاء طرائقها إلا عن تعفف إحساساً منهم بالغنى الذاتي لتراث هذه الأمة، وإلا فقد كان أكثرهم على بصرٍ بتياراتها وفنونها ودراية بلغاتها. ومن هؤلاء محمد توفيق البكري وخليل مطران وإسماعيل صبري وأحمد شوقي .. وإن كانوا قد أفادوا من مجمل اتجاهات النقد الحديث وفنون الأدب الغربي، فألموا بشيء من الملحمة والمسرحية والقصة الشعرية، واستثمروا بعض القيم الفنية لمذاهب الأدب في أوروبا، سواء منها ما يعد من سمات الرومانتيكية أو الواقعية أو الرمزية، جرى تكييفها واستخدمت في الأداء الشعري التقليدي. ولا يتسع المجال لذكر تفصيلات هذا، ولكننا نشير فقط إلى ما كان من اتجاه نحو تحقيق الوحدة ا لموضوعية والعضوية للقصيدة، وتآزر الشكل والمضمون، والتجديد في مقومات أسلوب الأداء عامة من لغة وتصوير وفنية بناء. والنزول بالشعر ( ا لكلاسيكي) من علياء (الإرستقراطية) وضق عطن المديح والمناسبات إلى حيث يتلمس أحاسيس الأمة يشاركها هموم واقعها. ومعلوم من واقع الأدب العربي الحديث واتجاهات أدبائه أن المذاهب تتزامن فيه وتتزاوج ، وإنه لم يكن هناك تمذهب حق بين طبقات الأدباء بصفة العموم.
ويلتقي الأدب التقليدي العربي في كثير من خصائصه وسمات أدبه مع الآداب التقليدية الغربية (الكلاسيكية) ، من حيث الأسس الفكرية فيه، التي تقوم على تقديم العقل باعتباره أساس فلسفة الأدب والجمال فيه، وما ترتب على ذلك من توحدٍ بوحدانية العقل – وجماعيةٍ وموضوعيةٍ وقصد واتزان.
فالعقل عند (الكلاسيكيين) مرادف للذوق السليم وصواب الحكم، ولا بد بناء عليه من أن تتوافق العبقرية مع ما تواضع عليه المجتمع وما ساده من تقاليد، وأن تبرأ من الخيال الجامح والنزعات الفردية والعاطفة الجياشةز ومقياس الجمال عندهم أنه انعكاس للحقيقة، فهو جمال موضوعي مطلق، ينشد الحقيقة أولاً، والمتعة شيء يضاف إليه. ونتيجة لهذا كان الأدب التقليدي خلقيا في غايته، مقنناً في منهجه وأسلوبه، وجاء متوشحاً بالسمات الفنية العامة لأصول المذهب من حيث المنزع الإنساني، والاعتماد على القواعد التجريدية للجمال، والاعتدال في الخيال والعاطفة، بحيث لا يبرز من المشاعر الخاصة إلا ما كان عاماً مشتركاً بين الناس. ومن حيث اللغة ، بما يحب أن تكون عليه من إشراق ووضوح وجزالة ومتانة في التركيب ، وتساوق فيما بين المعنى والمبنى.
وتكمن أبرز أوجه المخالفة بين التقليديتين، أن التقليدية العربية الحديثة ترجع إلى تراث تتوحد معه في لغته ويمثل أدبه أدباً واحداً ممتداً، على غير الحال مع (كلاسيكية) اليونان أو الرومان. كما تكمن كذلك في تفاصيل تفسير مفهوم العقل المتأثر بالحقائق الفلسفية هناك، والذي يهديه الدين هنا، وفي نوع القيم والتقاليد ومفهوم الجماعة الذي يختلف كله في مجتمعات طبقية عن مفهومه في مجتمع إسلامي موحد ... هذا إلى ما تميز به التقليدية العربية من أفق واسع بما تضم من نتاج المرحلة الجاهلية ومرحلة الإسلام المبكرة وما كان فيها من ظهور الفنون النثرية وتطور في مفاهيم الأدب وأسلوب الشعر.
ولقد هيمنت هذه التقليدية العربية على كثير من مفاهيم وتطبيقات الأداء الفني في العصر الحديث ويمكن أن يوصف من النتاج الأدبي بأنه اتباعي الاتجاه – بل حتى ذلك النوع من الأدب الذي تبرز فيه قيم ومفاهيم جمالية تتعارض مع وجهة النظر التقليدية، فهي لا تنفك تحتذي القديم وتترسمه في لغتها وأوزان موسيقاها وفي كثير من مقومات التصوير فيها ومصادره. فمما يخص الوزن الشعري أنه لا يخلو الشعر الحديث من أن يجيء على واحد من ثلاث وستين ضرباً يضمها ستة عشر بحراً عروضياً، أو ما سواها من أشكال محدثة، ما تزال على صلة ما بهذه الأوزان، ولا نأخذ اسم الشعر إلا وهي موصوفة بما يدل على مخالفتها للمتبع مقارنة بالوزن المعياري.
ومن مظاهر سيادة الاتجاه التقليدي تقدم مرتبة الشعر، والشعر الذاتي الغنائي بالذات، على سائر الفنون الأدبية من شعر موضوعي ملحمي ومسرحي ، ومن قصة ورواية ومسرحية نثرية ... الخ. كما ظل أسلوب الأداء القصدي ، بكثير من شرائط عمود الشعر فيه، مرعي الجانب في التطبيق وفي اتخاذه معياراً للحكم على القدرة الفنية للشاعر، مع الاعتراف بما مُني به من مزاحمة فنون وأساليب أداء شعري، كثرة ورواجاً دون أن تكون منزلة واعتباراً عند العرب.
وفي اللغة ، وهي أوضح دلائل استمداد التراث وقوة تأثيره نزعم أن المعاجم الموضوعية للفنون والأغراض ما تزال تسيطر على قاموس الشعراء بتناسب موضوعات القصائد وتشابه مضامينها العامة. فثمة قاموس لمفردات أبيات الحماسة واستنهاض الهمم، وثمة قاموس لمفردات الغزل، ومفردات الوصف والمديح والرثاء – لا يعدم من يدرس موضوعاتها عبر العصور إلى اليوم من أن يلحظ الترداد المتكرر فيها. كذلك الاعتماد في الوصف والتصوير على استدعاء الدلالات التاريخية لألفاظ الذوات والمعاني، والتعبير بالكتابة والتضمين وضرب المثل، وتوظيف النماذج الأدبية والإنسانية في هذا التراث، توظيفاً فنياً واعياً أو غير واع.
وهناك مزية احتفاظ اللغة العربية بكلا رصيديها من المواد الأصول ومن الدلالات القديمة والمتطورة للكلمات، ثم هي بعد وعاء هذا التراث غير منسلخة عن الفكر فيه، باحتفاظها بالصفات الدينية والقومية لأبناء اللسان . هذا إلى ما يتسرب إلى النص من المعاني والأفكار الجزئية التي تستدعيها عادة موضوعات الغزل والوصف والوطنية...
وفي الصورة: ننطلق من حقيقة أن الأدب عادة ما يستمد صوره مما يحيط به من مظاهر بيئته بتميزها وطبيعة الحياة فيها قبل أن يستعيرها من خارج بيئته أو تراثه.
ولا مناص للشاعر المبدع من أن يبتكر في صوره، أو يمتح مما استقر في وجدانه من صور من تقدمه من الشعراء، من تراث أمته أو من خارجه. وأقرب ما نستشهد به هنا هو مصادر تصوير المرأة في الغزل الذي ما يزال يقوم في معظمه على التشبيهات والمجازات المستمدة من عناصر ومظاهر الجمال في البيئة الطبيعية لهذه البلاد، وفي عالم الحيوان والنبات فيها بخاصة. وتتابع الشعراء في الامتداح بالوصف بالبحر والندى والغمام، وهو على سبيل التعويض، من واضعه الأول، عن جفاف البيئة. وكل هذا مما يعاب التتابع فيه دون محاوكلة تجاوز معناه ومبناه والابتكار فيه.
ومن مصداقية ارتباط الأدب بالتراث التصاقه ببيئته. فالبيئة في ذاتها زاخرة بشواهد هذا التراث ومعالمه، من المشاعر المقدسة ومواقع المآثر التاريخية ومشاهد البطولات والأمجاد. فإن خانت الذاكرة يوما، فإن أسباب المكان تشد أبناءه إلى حيث ينتمون، وإلى حيث ما تتعلق به أفئدتهم وتتجه نحوه قبلة صلاتهم. وصدور الأديب عن تأثيرات هذه البيئة، وما يحمله أدبه من تصوير لمجتمعها بعادات أهله وتقاليدهم وطرائفهم في تناول الحياة، هو أحد مظاهر الارتباط . وإن لا يكن ذلك في ضميره ومن مقصده فالحكمة أو المصلحة تقتضي إلا يقدم ما يروج من مضامين وأشكال في مجتمع عربي إسلامي . والبيئة من جانبها بما لها من خصائص إشراقة نهارها الطويل غالبا، وسطوع نجم ليلها وانبساط تربتها واتساع آفاقها ودفء الحياة فيها كفيلة بتميز الدخل من الأصيل.