ثرثرة حول ديوان (قوس الليل قوس النهار ) لمحمد الفيتوري

ثرثرة حول ديوان (قوس الليل قوس النهار ) لمحمد الفيتوري

0 المراجعات

image about ثرثرة حول ديوان (قوس الليل قوس النهار ) لمحمد الفيتوري

أولا :السياق العام للديوان

صدر "قوس الليل، قوس النهار" في زمنٍ عربيّ مأزوم، تلاحقت فيه الحروب والخيبات الوطنية، ووجد فيه الفيتوري نفسه في موقع الشاهد الحزين، بعدما كان لسنوات الشاعر الغاضب والرافض والمتمرّد. فالديوان يأتي بعد محطات طويلة في حياته، ما بين الخرطوم وطرابلس والقاهرة وبيروت والمنفى، وبين العمل الصحفي والسياسي والأدبي، فانعكس كل هذا التقلّب في نصوصه.

الديوان من حيث بنيته وتعبيراته يمثل مرحلة "الشيخوخة الناضجة" في شعر الفيتوري، حيث تتراجع الحماسة الثورية قليلاً، لتحل محلها نبرة هادئة، متأمّلة، موغلة في العمق.

ثانيًا: العنوان ودلالاته الرمزية

عنوان الديوان "قوس الليل، قوس النهار" يشير إلى الازدواجية الوجودية التي تطبع مجمل التجربة الفيتورية:

الليل يرمز إلى الغربة، المنفى، الانكسار، الضياع، الظلام الداخلي.

النهار يمثل الحلم، النور، الأمل، الذاكرة، الوطن، والبعث.

الـ"قوس" في العنوان يوحي بالانتقال، بالحركة الدائمة بين قطبين، ويشير أيضًا إلى الزمن بوصفه دائرة لا تنغلق. نحن دائمًا داخل قوس، لا نعلم إن كنا نغادر الليل إلى النهار، أم العكس.

ثالثًا: مضامين الديوان

1. المنفى والاغتراب

الموضوع الأكثر حضورًا في الديوان هو المنفى، لا كحالة جغرافية فقط، بل كحالة روحية وفكرية. الفيتوري يُجسِّد تجربة الانفصال عن الوطن والانتماء، ويعبّر عن الشعور بأن الإنسان قد يتيه حتى داخل بلاده:

“لي وطنٌ لا يشبهني / وأشبهه حين أهرب منه”

2. الهوية الممزقة

ينتمي الفيتوري إلى أكثر من هوية: إفريقية، عربية، إسلامية، صوفية، وهو في الديوان لا يُنكر هذا التداخل، بل يُحوّله إلى مساحة للتأمل والسؤال:

“أنا من هو؟ ومن أكون؟ / وجهٌ يتلوّن في مرايا الأرض”

“أزن الزمن بجراح قلبي / فأصير سيرة إنسانية”

3. الوطن والحلم القومي

لم يتخلّ الفيتوري في هذا الديوان عن قضايا الأمة، بل أصبح أكثر حزنًا في النظر إليها، حيث يسجل خيبة الحالم العربي، لكنه لا يفقد الإيمان الكامن في الشعر:

“كتبتُ حلمي على صفحة الرمل / فمحته أقدام الجنود”

"لكنني أعود / بظلّي الذي لا يُحاصر".

4. الزمن والموت

يعالج الديوان فكرة الزمن بوصفه نهرًا يجرفنا جميعًا، والموت ليس نهاية بل تحول إلى نور أو صمت، والنهار ليس دائمًا خلاصًا، كما أن الليل ليس دائمًا موتًا:

“الليل ليس عتمةً / بل مرآةٌ لأعماقي”

“أولد في كل موت / وأتفتح كالقصيدة عند حافّة الفجر”

رابعًا: الأسلوب الفني واللغوي

1. لغة رمزية وتأملية

لغة الفيتوري في هذا الديوان تميل إلى الرؤيوية والتجريد. تكثر فيه الصور الرمزية، والتراكيب المكثفة، والرموز الصوفية، دون أن تفقد القصائد حرارة التجربة:

تكرار الرموز مثل: الظل، البحر، المرآة، الريح، الطين، الشمس، الطفل، الموت.

الجمل تُبنى غالبًا كـ حالات وجدانية أكثر من كونها سردًا أو خطابًا.

2. الموسيقى والإيقاع

رغم أن الفيتوري ابتعد في هذا الديوان عن الشكل التقليدي للقصيدة العمودية، إلا أن قصائده ظلت محتفظة بـإيقاع داخلي موسيقي عميق، من خلال:

التكرار البنائي لبعض العبارات.

استخدام التوازي والتماثل في الجمل.

التنقل بين الإيقاعات من أجل التعبير عن التنوع النفسي.

3. البنية الشعورية والتجريب

القصائد في هذا الديوان غالبًا ما تنمو بطريقة انسيابية وتدريجية، دون تقيد بوزن أو قافية، كأنها مدوّنات داخلية لشاعر يتحدث مع ذاته والعالم معًا.

خامسًا: قيمة الديوان في مسيرة الفيتوري

يُعدّ "قوس الليل، قوس النهار" محطة ناضجة ومتأملة في تجربة الفيتوري، الذي بدأ حياته شاعرًا ثوريًا إفريقيًا مناهضًا للاستعمار، ثم تطور إلى شاعر وجودي، صوفي، وكونيّ. ففي هذا الديوان، نرى:

نضج الرؤية الشعرية.

تجذر البعد الإنساني في التعبير.

نضج اللغة وانسيابها نحو التأمل والاختزال.

وبذلك، فإن هذا الديوان يُشكّل مرآةً شعريّة شاملة لحياة الشاعر، حيث يلتقي فيه الطفولة والمنفى، الليل والنهار، الفقدان والحلم، في نسيج شعري متماسك وعميق.

خاتمة

ديوان "قوس الليل، قوس النهار" ليس مجرد مجموعة من القصائد، بل رحلة وجدانية وفكرية في قلب شاعر كبير، عبر ليل المنافي إلى فجر الشعر، ومن الظلمة إلى الضوء، ومن الذات الفردية إلى الهمّ الإنساني الأوسع. فيه يُعلن الفيتوري أن الشاعر لا يموت، بل يختبئ في ظله، ويتحول إلى صوت، إلى نداء، إلى قصيدة تمتدّ بين قوسين: أحدهما ليل... والآخر نهار.

 

 

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

5

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة