حالة الشباب الذين يعيشون الغربة على هامش الغربة شيء من المعاناة
على هامش الغربة ..
إلى المغرمين والمنهكين والبائسين والعاشقين، إلى المنتظرين وسط الرمال لأزيد من أربعين سنة وهم يمضغون كالعادة عهر السياسيين، فيهاجر الشاب بحثا عن سبات يقتل السبات، وتلتحف الفتاة الرياح زينة، أربعون سنة ويزيد، وفتيات وطني يشربن الفرح والكبرياء والشموخ فيثملن من كأس الوطن، أربعون سنة ونيفا وشباب وطني يعزفون لحن الغربة ويتوهمون النسيان، إليهم جميعا رحلة على هامش الحياة، رحلة تُجبر البعض على أن يقتات من مشاعر الآخرين، ليبقى على القرب حتى لا يسقط منه الإحساس في هوّة الجفاء ممّن أحبّ.
أكاد أجزم بأن رحلة كل عربي لبلاد الغربة وهو ينزل ضيفا على عائلة ما لأول مرة، سيخترق الأحداث غير الواقعية كالخيال تماما، فينقسم الشخص فيه لشخصين متناقضين أحدهما في منتهى الطيبة تماشيا مع مزاج العائلة المضيفة، والآخر غاضب من كل شيء، شخصان يتبارزان بضراوة، ولو كان بمقدور الشخص الغاضب لغرز خنجرا في قلب الشخص الباسم، روحان تحملهما معك وأنت ترحل مع الزمن تاركا وراءك شيئا من كبريائك، فتجبرك مشاعرك على إخفائها وهي في ريعان نقاوتها.
ومن سخرية الغربة أنها تجعلك تتنصل من المشاعر النابضة بالحب، فتصبح حياتك كلّها في تلك المدة التي تقضيها مع العائلة مهما تكن العلاقة التي تربطك بها بلا طعم ولا رائحة، حياتك كلّها عبارة عن باقة ورود بلاستيكية، فمن بداية ولوجك المكان وأنت تنكمش تدريجيا وتمشي بحذر وقلبك يخفق خوفاً من التعثر بما لا يمكن تجنّبه، حياتك تمضي ببطء شديد وعيناك تلتهمان آلاف التفاصيل التي يجود بها المكان، كأنما أنت واقف على دخان الذاكرة، ستكون أحرص من العائلة على ممتلكاتها، وستكون ملازما "لطبلة أتاي"، ستجلس طويلا في ذلك المكان وستحفظ كل فاصلة فيه، ستصنع "أتاي" صباحا للعائلة وتجلس وقت الظهيرة في المكان نفسه تقلب كؤوس "أتاي"، وستقدمه مساء للضيوف، وسيحاول أحدهم إراحتك فلا تقبل، ستقول بأنك مرتاح وأن لا شيء يمنعك من صناعته ليلا، ستتمطّق "أتاي" مرات عديدة، وتتردد في صبّه، ستختفي حاسة الذوق عندك، وتجعل الكؤوس تمتلئ رغوة كما لم تفعل من قبل وتبتسم وأنت تشاهد الرغوة تعلو الكؤوس الغارقة بين أصابعك المتعبة، ستجلس طويلا ولن تستطيع أن تضع وسادة تحت مرفقك، ستستدعي روحك الباسمة كل أنواع الشجاعة رغم الألم الذي يقتل روحك الغاضبة، وتصب "أتاي" وتقدمه مرات عديدة ويختفي مذاقه عندك، فلم تعد تدرك أي الكؤوس أحلى وأيّها أمر.
وعندما يأتي موعد الوجبات ستتأخر بقدر ما تستطيع كي لا تكون أول من يلوك لقمته، وستنفض يديك بعد لقيمات تلوكها ببطء شديد وتكتفي، سيحاول أهل العائلة أن يثنوك للعدول عن قرارك ولكنك لن تعود ثانية رغم الجوع، ولن تستطيع الأكل من فاكهتين مختلفتين إن وجدتا، ستأخذ من التي تليك حتى وإن كنت لا تحبها، وبعدها تنفض يديك وروحك الغاضبة تلفظ صيحات لا صوت لها، ستحافظ على صلواتك الخمس حتى وإن كنت في السابق تجمع صلاة الفجر مع الظهر، تنهض قبل الآذان لتشتري خبزا من أقرب دكان وتتنفس نسمات الصباح العليل بروحك الغاضبة، فتعود لتحضّر أواني الشاي ويبدأ يومك من حيث انتهى مذاقك.
ستلعب كثيرا بروحك المرحة الباسمة مع أطفالهم الصغار رغم شقاوتهم، ستتحملهم وهم يتفلون عليك ويتمرغون على ظهرك، ستخرج بهم وتمرح معهم وأنت تتمزق، لن تترك آباءهم يضربونهم أو يمنعون عنهم أي شيء، ستكون المدافع عن شقاوتهم وفي أعماقك تتمنى لو يعاقبوهم بقسوة جزاء ما لعبوا على أكتافك، ستقدم لهم هاتفك النقال يلعبون به كيفما شاؤوا، وأنت تبلع كل كلماتهم النابية وتبتسم، ستقتلك الغربة في تلك الليالي وتدوس على كبريائك، ستمشي للمطبخ - كي تضع صحنا أو كأسا - على أصابع قدميك وتحاول رغم أنفك أن تبتسم وأنت تضع كل شيء في مكانه بطريقة لبقة دون أن يشعر بك أحد من أهل الدار.
في غربتك هذه القاتلة ستحاول أن تكون اجتماعيا حتى ولو كنت قليل الحديث وستجلب بمخيلة الدراسة وما بعدها كل أنواع القصص والنكت التي تحفظ لتسردها في قالب كوميدي كي ترى أهل الدار يضحكون، وبعد يوم شاق تطعن فيه قلبَك سكينُ الغربة القاتلة، تتحلى بصبر أيوب وتؤجل رحلتك لدورة المياه، تنتظر الجميع أن يغط في سبات عميق كي يخلو لك المكان والزمان، تدخلها وأنت واثق تماما بأن الكل نائم ومع ذلك تفتح جميع حنفيات المياه، لتكتم الصوت خلف الأبواب الموصدة، تقف في دورة المياه كي تستنشق رحيق الحرية والقوم نيام.
يا لَسخرية الغربة! تعيش وحشة في بلاد لا ترحم، فلا تجد إلا الوجع وبضع ضحكات مسروقة من حين إلى آخر، تجرجر نفسك وتتأوه ببطء ولربما تنزل من عينيك دمعةٌ حرّى لم تستطع حجبها، وتتذكر المغرمين والمنهكين والبائسين والمنتظرين وسط الرمال لأزيد من أربعين سنة وهم يعزفون لحن الغربة ويتوهمون النسيان.