
الذاكرة العاطفية: لماذا نتذكر الألم أكثر من الفرح؟
الذاكرة العاطفية: لماذا نتذكر الألم أكثر من الفرح؟
في رحلة حياتنا اليومية نختزن آلاف اللحظات: نكات أضحكتنا، ابتسامات عابرة في الشارع، وأيضًا جروح صغيرة تركتها خيبات الأمل. لكن الغريب أنّ الدماغ لا يتعامل مع هذه الذكريات بالتساوي؛ فاللحظات المؤلمة غالبًا ما تعلق في أذهاننا أطول من لحظات السعادة.
هنا يطرح العلم سؤالًا محوريًا: لماذا يبدو الألم أكثر رسوخًا من الفرح في ذاكرتنا؟

الدماغ: جهاز إنذار قبل أن يكون صندوقًا للذكريات
من منظور بيولوجي، الدماغ لم يُصمَّم ليجعلنا سعداء، بل ليُبقينا أحياء.
الذكريات السلبية تعمل كجرس إنذار: إذا لدغتك حشرة سامة مرة، فمن مصلحتك أن تتذكر هذا الألم لتتجنبه مستقبلًا.
الذكريات الإيجابية تعزز الشعور بالراحة، لكنها لا تحمل دائمًا قيمة بقاء مباشرة.
لهذا السبب يقال إن الدماغ يتعامل مع الأحداث السيئة كـ"أولوية قصوى" للتخزين.
الذاكرة العاطفية وصناعة هويتنا
الألم لا يلتصق بعقولنا فقط ليحذرنا من الأخطار، بل يساهم أيضًا في تشكيل هويتنا الشخصية. فالتجارب الصعبة تجعلنا أكثر نضجًا، وتعيد صياغة طريقة نظرنا إلى العالم وإلى أنفسنا. على سبيل المثال، قد تتحول خيبة أمل قاسية إلى دافع لتحقيق النجاح، أو يصبح الفقدان المرير درسًا في تقدير اللحظات السعيدة حين تأتي. بهذا المعنى، يمكن القول إن الألم ليس مجرد ذكرى مزعجة، بل أداة بيولوجية ونفسية تساعدنا على النمو والتطور.
الكيمياء العصبية للألم والفرح
الكورتيزول (هرمون التوتر): يُفرز بكميات كبيرة أثناء المواقف السلبية، ما يقوّي عملية تثبيت الذاكرة.
الدوبامين والسيروتونين (هرمونات الفرح): تمنحنا شعورًا جيدًا، لكنها لا تترك أثرًا عميقًا وطويل الأمد مثل الكورتيزول.
النتيجة: الجرح العاطفي قد يبقى في الذاكرة لعقود، بينما فرحة عابرة تتلاشى بسرعة.
نظرية “الانحياز السلبي”
علماء النفس يصفون هذه الظاهرة بما يُسمى الانحياز السلبي (Negativity Bias)، أي ميل البشر إلى إعطاء وزن أكبر للتجارب السلبية مقارنة بالإيجابية.
تقييم العلاقات: كلمة جارحة من صديق قد تطغى على عشر كلمات لطيفة.
في العمل: نقد واحد يعلَق في الذاكرة أكثر من مديح متكرر.
في الحب: خيانة واحدة قد تمحو سنوات من الذكريات الجميلة.
الأثر الاجتماعي والثقافي
هذا الميل لتذكر الألم انعكس حتى في ثقافتنا:
الأدب يزخر بمآسي أكثر مما يزخر بحكايات الفرح.
الأخبار السلبية تنتشر أسرع من القصص الإيجابية.
الأغاني التي تتحدث عن الفقدان والحنين غالبًا ما تبقى خالدة أكثر من أغاني السعادة.
هل يمكن تدريب الدماغ على تذكر الفرح؟
رغم طبيعته الميّالة للسلبيات، الدماغ مرن بشكل مدهش. بعض التقنيات التي أثبتت فعاليتها:
التأمل الواعي (Mindfulness): يساعد على تثبيت اللحظات الإيجابية بدل تركها تنزلق بسرعة.
ممارسة الامتنان: كتابة ثلاث لحظات سعيدة يوميًا تُعيد تدريب الدماغ على موازنة الذكريات.
التعرض المتكرر للفرح: تكرار التجارب الممتعة (حتى لو صغيرة) يزيد من فرص رسوخها في الذاكرة.
الخاتمة
الذاكرة العاطفية ليست دفترًا محايدًا يسجل كل ما يحدث، بل هي نظام بقاء ذكي يعطي الأولوية لما يهددنا أكثر مما يسعدنا.
لكن إدراك هذه الحقيقة يمنحنا أداة للتحكم: إذا كان الألم يتشبث بنا تلقائيًا، فالفرح يحتاج إلى جهد كي نحتفظ به.
بمعنى آخر، الذكريات المؤلمة تأتي بلا دعوة، أما الذكريات السعيدة فنحن من نصنع لها مقعدًا دائمًا في عقولنا.