ماذا تعرف عن لغة الشعر؟

ماذا تعرف عن لغة الشعر؟

Rating 0 out of 5.
0 reviews

ماذا تعرف عن لغة الشعر ؟

 إن استعمال اللغة للتعبير الأدبي ليس ظاهرة بسيطة ولا هينة. وعلى الرغم من أن استعمالنا للغة في أمور الحياة العادية يبدو مسألة لا تحتاج إلى جهد ولا عناء، فنحن نوشك أن نستخدم اللغة في كل لحظة من لحظات اليوم من أجل قضاء حاجاتنا، والتفاهم مع الآخرين، والاتصال بكل ما يحيط بنا؛ إلا أن اللغة في العمل الأدبي لا تخضع لهذه المرونة والأخذ التلقائي اللذين تخضع لهما لغة الحياة ونحن نتعامل معها، بل هي ظاهرة معقدة ، يحتاج التعامل معها إلى كثير من الجهد والمعاناة والخبرة والمراس.

ومهما تبلغ اللغة من وفرة المفردات، وغنى الألفاظ والتعابير، ومهما يبلغ الأديب من التضلع منها، والتمكن من مادتها؛ فإنه يقف في كثير من الأحيان عاجزاً عن الوقوع على اللفظة التي يريد، والعبارة التي تنقل كل ما تجيش به نفسه من أفكار وأحاسيس نقلا أمينا دقيقا. ومن هنا كانت اللغة هي الظاهرة الأولى التي ينبغي التوقف عندها طويلاً ونحن نتحدث عن الأدب، لأن الأدب لا يمكن أن يتحقق إلا فيها، فهي مادته الأساسية، وعندما يفرغ الأديب من أداء كلماته يكون في الواقع قد حقق عمله الفني في صورته المستوية الكاملة. وقد شبه النقاد العرب القدماء الأدب بعربة يجرها جوادان: أحدهما الإلهام والأخر اللغة.

 إن استعمال اللغة للتعبير الأدبي ليس ظاهرة بسيطة ولا هينة. وعلى الرغم من أن استعمالنا للغة في أمور الحياة العادية يبدو مسألة لا تحتاج إلى جهد ولا عناء، فنحن نوشك أن نستخدم اللغة في كل لحظة من لحظات اليوم من أجل قضاء حاجاتنا، والتفاهم مع الآخرين، والاتصال بكل ما يحيط بنا؛ إلا أن اللغة في العمل الأدبي لا تخضع لهذه المرونة والأخذ التلقائي اللذين تخضع لهما لغة الحياة ونحن نتعامل معها، بل هي ظاهرة معقدة ، يحتاج التعامل معها إلى كثير من الجهد والمعاناة والخبرة والمراس.

ولعل من أبسط مايدلنا على صعوبة التعامل مع اللغة أن الذين يمارسون الإنتاج الأدبي يعرفون أنها ليست في جميع الأحوال تلك الأداة المطواع الذلول للتعبير عما يريدون، بل كثيرا ما تجمح بين أيديهم، وتستعصي على نقل الفكرة أو الشعور كما يعيش في نفس صاحبه، بل نحن نلاحظ ذلك في الكتابة العادية، فكلنا قد مارسها، ولقي في استعمالها عنتاً وهو يقدم لفظة ويؤخر أخرى، أو يُضرب عن التعبير كله صفحاً ليبدأ من جديد تعبيراً آخر أكثر ملاءمة ودقة، أو أقرب إلى ما في نفسه. فإذا كان مثل هذا الجهد موجوداً في الكتابة العادية؛ فإن الذي لا شك فيه أشد عنفاً، وأوضح ظهوراً في لغة العمل الأدبي، وذلك لأنها في الأصل لغة ذات سمات خاصة، ومعالم فردية متميزة تبعدها عن الغة العادية التي يتناولها الناس في حياتهم اليومية العادية، أو اللغة التي يتداولها العلماء والفلاسفة على سبيل المثال.

إن للغة الأدب شخصية متميزة واضحة المعالم. فهي ليست وعاء للتعبير عن المعاني التي تعرض، أو الأفكار والأحاسيس التي تراد فحسب، ولا يكفي فيها إفهام المتلقي الغرض المقصود؛ ولكنها تسعى إلى إفهامه وإقناعه والتأثير فيه في وقت واحد معاً. وهذه المهمة تقتضي عناية خاصة بها، ومجهوداً أشق.

وإذا كانت عملية توصيل المعنى المقصود هي قيمة اللغة بين بني البشر جميعاً، فإن هذه القيمة غير أساسية على ما يبدو في لغة الأدب.

يقول ريتشاردز حول هذه القضية:" فمع أنه من الأجدى لنا أن ننظر إلى الفنان باعتباره موصلاً ؛ إلا أنه ليس صحيحا أن الفنان ينظر إلى نفسه عاة على هذا النحو. ولا نرى الفنان عادة في أثناء خلقه للعمل يهتم بالتوصيل عن قصد وبطريقة واعية، بل إنك إن سألته عما يفعل فأغلب الظن أنه سيجيبك قائلا: إن التوصيل في نظره مسألة لا شأن له بها، أو على أحسن الافتراضات فإنه سيقول: إنها مسألة ثانوية بحتة، وإن كل ما يفعله هو أن يصنع شيئاً جميلاً في ذاته، أو شيئاً يبعث على الرضى في نفسه، أو شيئاً ذاتياً يعبر على نحو غامض عن مشاعره وعن نفسه ... ومن الحكمة إذن أن يصرف الفنان اهتمامه كلية عن هذه الأمور، بل إن أولئك الفنانين الذين يبدو عليهم أنهم يهتمون بنواحي التوصيل لذاتها إنما هم غالباً فنانون من الطبقة الثانية ".

وفي معرض المقارنة العابرة بين لغة العلم ولغة الأدب نجد الأولى تحرص على عرض الأفكار من أقرب طريق وأخصره وأوضحه، لا يتأنق صاحبها في عبارة، ولا يزخرف لفظاً، أو يزين جملة، بل هو يهدف إلى اختيار اللفظ المعبر عن المعنى المطلوب، فأي لفظ عبر عن المعنى كان وافياً بالغرض، وقد يستغني العالم عن اللغة نهائياً، فيستبدل بها رموزاً ومصطلحات مادامت هذه الرموز والمصطلحات قادرة على التعبير والإفهام. لكن لغة الأدب تخالف عن ذلك كله.

وإذا خصصنا الحديث قليلاً في لغة الشعر؛ وجدنا أنها عالم خاص، وشخصية متفردة، أبرز ما تتميز به أنها لا يمكن أن تُلتمس معالمها بين دفتي المعجم شأن اللغة العادية، إنها تتأبى على المعجم، وتستعصي عليه لأنها أكثر حيوية، وأغنى إيحاء، وأوفر مدلولاً من جميع التحديدات والمفاهيم التي يضمها المعجم، لأنها في الأصل لغة فردية في مقابل اللغة العامة التي يستخدمها العلم.

وهي لغة شديدة التكثيف والإيجاز، تنضغط فيها مدلولات الجمل المطولة، والعبارات الفضفاضة الواسعة في عبارة موجزة قصيرة تحمل مدلولاً غنياً ثراً، ولعل هذا أحد أسباب الصعوبة التي نلقاها في فهم لغة الشعر: فلغته – على وجه العموم – ليست مأنوسة واضحة كلغة الكلام العادي، وهي تحتاج إلى جهد يبذله المتلقي حتى يصل إلى مدلولها . وقد لاحظ الجرجاني – صاحب الوساطة – هذه المسألة ذات مرة، فتنبه إلى أن الشعر جميعه – ما كان منه قديماً أو محدثاً – غامض المعاني، مستتر المدلول.

ولا يقع هذا الغموض لصعوبة في لفظة معينة مثلا، أو في غرابتها وتوحشها، وإنما مرد ذلك إلى هذا التركيب ا للغوي الخاص الذي يقوم عليه الشعر. قال الجرجاني: (وليس في الأرض بيت من أبيات المعاني لقديم أو محدث إلا ومعناه غامض مستتر. ولسنا نريد القسم الذي خفاء معانيه واستتارها من جهة غرابة اللفظ وتوحش الكلام، ومن قبل بعد العهد بالعادة، وتغيّر الرسم ..).

لغة الشعر إذن لغة غامضة، لأنها تحتضن الألفاظ المهمة ذات الوجوه المتعددة، ولا تنفر من الترادف والاشتراك، وتتقبل التناقض على خير ما يكون التقبل، وتجد في المفارقة حياة لها، وهي تقف من هذه الناحية قبالة لغة العلم التي تتسم بالوضوح، والدقة الموضوعية، والاتساق الباطني، وتطرح الألفاظ الغامضة كالجمال والخير والحق والفضيلة وما شاكل ذلك، ولاتفسح مجالاً للتناقض والمفارقة والالتباس.

وبسبب هذه الخصائص الواضحة التي تتسم بها اللغة الأدبية على وجه العموم، ولغة الشعر على وجه الخصوص، نجد فلاسفة الوضعية المنطقية – على سبيل المثال – قد دعوا إلى لغتين: لغة العقل كما تتجلى في العلوم، ولغة العاطفة كما تتبدى في الآداب والدين. ثم جاءت مدرسة النقد الشكلي فاستندت إلى الوضعية المنطقية في الحديث عن وظيفة اللغة، وفي الفصل بين لغة العلم ولغة الأدب.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

358

followings

608

followings

6669

similar articles
-