
بحر سارجاسو الذي بلا شواطئ
بحر سارجاسو: البحر الذي بلا شواطئ
يُعد بحر سارجاسو (Sargasso Sea) واحداً من أعجب وأغرب المسطحات المائية على وجه الأرض، فهو البحر الوحيد الذي لا تحيط به اليابسة، بل تحده تيارات المحيط الأطلسي من جميع الجهات. هذا الطابع الفريد جعله مادة خصبة للأساطير والقصص القديمة، ومجالاً مهماً للبحث العلمي الحديث، خاصة لما يتمتع به من نظام بيئي نادر، ولونه المميز، والطحالب التي تكسو سطحه. في هذا المقال، نقترب من هذا البحر الغامض، ونستعرض خصائصه ومكانته البيئية والتاريخية.

الموقع الجغرافي والحدود الطبيعية
يقع بحر سارجاسو في قلب المحيط الأطلسي الشمالي، بالقرب من جزر برمودا. يمتد على مساحة تقدر بحوالي 3.5 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل تقريباً مساحة الهند. شكله بيضاوي، ويُعتبر "بحراً بلا شواطئ" لأنه لا تحده قارات أو جزر، بل تحيط به تيارات المحيط التي تُرسم حدوده بشكل طبيعي:
- من الغرب: تيار الخليج الدافئ (Gulf Stream).
- من الشمال: التيار الأطلسي الشمالي.
- من الشرق: تيار الكناري.
- من الجنوب: تيار شمال الأطلسي الاستوائي.
هذه التيارات تحاصر مياهه وتجعلها أشبه ببحر مستقل داخل المحيط، بمياه دافئة وصافية تختلف عن المحيط المحيط بها.
سبب التسمية
سُمّي البحر بهذا الاسم نسبةً إلى طحالب السارجاسوم (Sargassum)، وهي طحالب بنية اللون تطفو على سطحه بكميات هائلة. هذه الأعشاب البحرية العائمة لا ترتبط بقاع البحر مثل الطحالب العادية، بل تتحرك مع الأمواج والتيارات، فتكوّن "سجادة خضراء – بنية" تمتد على مساحات شاسعة. وقد وصفها البحارة الأوائل بأنها كالغابة الطافية وسط البحر.
الخصائص الطبيعية لبحر سارجاسو
- المياه الدافئة: يتميز بحر سارجاسو بدرجة حرارة أعلى نسبياً من المحيط الأطلسي المحيط به، إذ تتراوح بين 18 و28 درجة مئوية.
- النقاء والصفاء: تُعد مياهه من أنقى مياه المحيطات، حتى إن الرؤية تحت الماء قد تصل إلى أكثر من 60 متراً.
- اللون الأزرق الفاتح: مياه البحر لها لون أزرق فيروزي مميز نتيجة صفائها وقلة الرواسب.
- الهدوء النسبي: تياراته الداخلية ضعيفة نسبياً، مما يجعل سطحه هادئاً مقارنة بمياه الأطلسي الهائجة.
- الطحالب الطافية: الطابع الأبرز له هو الطحالب التي تعوم بحرية وتكوّن بيئة خاصة غنية بالكائنات البحرية الصغيرة.
الأهمية البيئية
يُعتبر بحر سارجاسو نظاماً بيئياً فريداً، حيث يشكّل موطناً أساسياً للعديد من الكائنات:
- السلاحف البحرية: وخاصة السلحفاة الخضراء، التي تستخدم الطحالب كملجأ ومكان للنمو في مراحل حياتها الأولى.
- ثعابين البحر الأوروبية والأمريكية: تُعد من أغرب الظواهر البيولوجية؛ إذ تهاجر هذه الثعابين آلاف الكيلومترات من أوروبا وأمريكا الشمالية لتتكاثر في بحر سارجاسو، ثم تموت بعد وضع البيض.
- الأسماك الصغيرة والقشريات: تجد في الطحالب مأوى آمناً يحميها من المفترسات.
- الطيور البحرية: تتغذى على الأسماك والكائنات الصغيرة التي تعيش في البحر.
هذا النظام البيئي جعل من بحر سارجاسو "حضّانة طبيعية" للكائنات المهاجرة والمهددة بالانقراض.
بحر سارجاسو في التاريخ والأساطير
البحارة الأوائل
كان البحارة البرتغاليون في القرن الخامس عشر أول من وصفوا هذا البحر أثناء رحلاتهم الاستكشافية عبر الأطلسي. وقد لاحظوا الطحالب الكثيفة التي غطت سطحه، وظنوا أن السفن قد تعلق في هذه الأعشاب وتتعطل عن الإبحار.
الأساطير البحرية
مع مرور الوقت، نسجت حول البحر العديد من الأساطير. ارتبط كثيراً بأسطورة مثلث برمودا الذي يقع بالقرب منه، حيث يُعتقد أن الطحالب وسكون المياه ساهم في بعض حالات فقدان السفن. ورغم أن هذه الادعاءات لا أساس علمياً لها، إلا أنها زادت من غموض البحر في المخيلة الشعبية.
المخططات البحرية
في القرون التالية، أُدرج بحر سارجاسو في الخرائط والمخططات البحرية كمعلَم غريب، ما زاد من سمعته بين البحارة والمستكشفين.
التهديدات البيئية المعاصرة
رغم أهميته البيئية، يواجه بحر سارجاسو تحديات خطيرة، أبرزها:
- التلوث البلاستيكي: التيارات المحيطة بالبحر تعمل على تجميع كميات ضخمة من النفايات البلاستيكية في وسطه، مما يضر بالكائنات البحرية.
- الصيد الجائر: خاصة صيد ثعابين البحر التي تعتمد على البحر كمكان للتكاثر.
- التغير المناخي: ارتفاع درجات الحرارة وتغير مسارات التيارات البحرية قد يهدد استقرار نظامه البيئي.
- التلوث الكيماوي: المواد الكيميائية التي تصل إلى البحر عبر التيارات تلوث الطحالب والمياه.
ولذلك، تُبذل جهود دولية من أجل حماية البحر، إذ أطلقت منظمات بيئية خططاً لتصنيفه كمحمية طبيعية بحرية دولية.
بحر سارجاسو والعلم الحديث
يُعد البحر مختبراً طبيعياً للعلماء:
- تتم فيه أبحاث عن تغير المناخ، لأنه يتأثر مباشرة بتحولات التيارات البحرية.
- يُستخدم لدراسة الهجرات الحيوانية، وخاصة ثعابين البحر.
- يتم فحص الطحالب البحرية فيه لاستخدامها في الصناعات الدوائية والغذائية.
كما أن صفاء مياهه يساعد الباحثين في دراسة حركة الكائنات البحرية وأثر التغيرات البيئية عليها.
بحر سارجاسو والإنسان
على مر العصور، ارتبط البحر بالإنسان بعدة طرق:
- كمصدر غذاء من خلال الأسماك والسلاحف.
- كمركز أسطوري أثار الخوف والفضول لدى البحارة.
- كوجهة علمية لاستكشاف أسرار البيئة البحرية.
- وكمنطقة حساسة تحتاج لحماية لضمان استمرار دورة حياة الكائنات المهاجرة.
الخلاصة
يظل بحر سارجاسو من أغرب البحار في العالم، فهو البحر الذي بلا شواطئ، والبحر الذي تغطيه الطحالب الطافية، والبحر الذي يطفو بين الأسطورة والواقع. إن أهميته البيئية لا تقل عن أهميته التاريخية، فهو موطن لتكاثر ثعابين البحر والسلاحف، وملاذ طبيعي للكائنات الصغيرة، وفي الوقت نفسه رمز للغموض والأساطير البحرية.
لكن هذه الأعجوبة الطبيعية تواجه أخطاراً حقيقية تهدد وجودها، بدءاً من التلوث وحتى التغير المناخي. لذلك فإن الحفاظ على بحر سارجاسو واجب دولي، ليس فقط من أجل الحياة البحرية التي تحتضنه، بل من أجل التوازن البيئي العالمي أيضاً.