
المسجد العمري في غزة
المسجد العمري الكبير في غزة: شاهد حضاري على التاريخ والهوية
يُعد المسجد العمري الكبير في مدينة غزة من أبرز المعالم الإسلامية والتاريخية في فلسطين، بل ومن أقدم المساجد في بلاد الشام قاطبة. يجمع هذا المسجد بين البُعد الديني والرمزية الحضارية والعمارة الفنية، ليشكّل مرآةً تعكس مسيرة المدينة الممتدة منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا. ورغم الدمار الذي أصابه مرارًا، فإنه ما يزال رمزًا للمقاومة الثقافية والهوية الفلسطينية المتجذرة.
النشأة والتاريخ
تعود أصول المسجد العمري إلى الفتح الإسلامي لفلسطين في القرن السابع الميلادي، إذ يُنسب بناؤه إلى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن هنا جاءت تسميته بـ "العمري". غير أن المكان الذي يحتضن المسجد اليوم كان مأهولًا بالعبادة منذ عصور أقدم؛ فقد كان في البداية معبدًا رومانيًا، ثم تحوّل إلى كنيسة بيزنطية قبل أن يصبح مسجدًا جامعًا للمسلمين بعد الفتح الإسلامي.
عبر القرون، مرّ المسجد العمري بمحطات تاريخية متعددة. خلال الحقبة الصليبية، حُوِّل إلى كنيسة لفترة، ثم أعيد إلى وظيفته الإسلامية مع استعادة المسلمين للمدينة. وفي عهد المماليك، جرى ترميمه وتوسيع بنيانه، وأُضيفت إليه معالم معمارية بارزة مثل المئذنة بطرازها الفريد. أما في العصر العثماني، فقد حافظ المسجد على مكانته كأكبر جوامع غزة وأهمها، واستمر مركزًا للعبادة والتعليم والتواصل الاجتماعي.

المعمار والمكان
يقع المسجد في قلب البلدة القديمة بحيّ الدرج وسط مدينة غزة، بالقرب من الأسواق التاريخية كسوق الذهب وساحة فلسطين. وتبلغ مساحته الكلية حوالي 4100 متر مربع، بينما يشغل فناءه المكشوف مساحة تقارب 1190 مترًا مربعًا، ما يجعله قادرًا على استيعاب آلاف المصلين في المناسبات الدينية الكبرى مثل الجمعة ورمضان والأعياد.
يتميّز المسجد بمزيج معماري يعكس العصور التي مر بها. فمئذنته المملوكية، القائمة على قاعدة مربعة ثم تنتقل إلى شكل مثمن في أعلاها، تُعد من أبرز معالمه وأكثرها تميّزًا. أما جدرانه وسقوفه فقد شُيّدت من الحجارة الكلسية الضخمة، ما يضفي عليه طابعًا جماليًا وقوة في البناء. ويضم المسجد قاعة صلاة واسعة وأروقة جانبية، إضافة إلى محراب ومنبر تقليديين يعكسان روح العمارة الإسلامية الكلاسيكية.
البُعد الثقافي والعلمي
لم يكن المسجد العمري مجرد مكان لأداء الصلوات، بل شكّل على الدوام مركزًا علميًا وثقافيًا بارزًا في غزة. فقد احتوى على مكتبة ضخمة تضم ما يقارب 20 ألف كتاب ومخطوطة، بينها نفائس تاريخية تعود إلى قرون مضت، تغطي مجالات الفقه والتفسير والحديث والأدب والعلوم الطبيعية. هذه المكتبة جعلت المسجد مرجعًا للعلماء والطلاب، ومؤسسة معرفية تخدم المجتمع الفلسطيني على مدى أجيال.
كما ارتبط المسجد بدور اجتماعي وثقافي مهم، حيث كان ملتقى للعلماء والخطباء وزعماء المجتمع، ومكانًا للتداول حول شؤون المدينة ومواجهة التحديات السياسية. بذلك، تحوّل إلى رمز للهوية الفلسطينية وذاكرة جماعية حية تحمل في طياتها تاريخ غزة ومقاومتها.
مكانة روحية ورمزية
يُعتبر المسجد العمري ثالث أكبر مسجد في فلسطين من حيث المساحة بعد المسجد الأقصى في القدس ومسجد أحمد باشا الجزار في عكا. لكن مكانته لا تقاس بالحجم فقط، بل بما يختزنه من معانٍ دينية وحضارية. فالمصلون فيه يشعرون بأنهم يصلّون في موقع شهد تعاقب حضارات وديانات، ووقف شاهدًا على ثبات العقيدة الإسلامية في وجه الغزاة والمستعمرين.
ولذلك، ظل المسجد العمري رمزًا للفخر لدى أهالي غزة، وعلامة بارزة في وجدان الفلسطينيين عمومًا، حيث يتذكرون من خلاله عمق ارتباطهم بتاريخهم وحضارتهم الإسلامية والعربية.
التدمير الأخير والذاكرة الحية
في العدوان الإسرائيلي على غزة منذ أكتوبر 2023، تعرض المسجد العمري لقصف مباشر أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة منه، بما في ذلك مكتبته التاريخية التي فقدت عددًا هائلًا من الكتب والمخطوطات النادرة. ورغم الجهود الشعبية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تحت الركام، فإن الخسائر كانت جسيمة وأثارت حزنًا عميقًا في نفوس الفلسطينيين.
غير أن مشهد المصلين الذين عادوا للصلاة بين أنقاض المسجد بعد إزالة بعض الركام عكس رسالة صمود واضحة: أن الروح التي يحملها المسجد العمري لا يمكن محوها بالقصف أو التدمير. فقد ظل الجامع حيًا في قلوب الغزيين، ومركزًا لإحياء الشعائر حتى في أصعب الظروف.
خاتمة
المسجد العمري الكبير في غزة ليس مجرد بناء حجري أو موقع أثري، بل هو ذاكرة الأمة الفلسطينية وروحها، شاهد على الفتوحات الإسلامية، والتنوع الحضاري، والمقاومة المستمرة في وجه الاحتلال. من خلال تاريخه الممتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا، يجسد المسجد العمري التقاء الديني بالسياسي، والعلمي بالثقافي، ليظل علامة مضيئة في تاريخ غزة وفلسطين والعالم الإسلامي. ورغم ما أصابه من دمار، سيبقى رمزًا خالدًا للهوية والكرامة، ودليلًا على أن الحضارة لا تُهزم مهما اشتدت المحن.