
ما لا تعرفه عن البحر الميت
البحر الميت: أعجوبة طبيعية فريدة بين الأسطورة والعلم
يُعد البحر الميت من أعجب الظواهر الطبيعية على وجه الأرض، فهو ليس مجرد مسطح مائي عادي، بل هو بيئة استثنائية تجمع بين الجغرافيا الفريدة والخصائص الكيميائية النادرة، إضافة إلى البعد التاريخي والديني الذي جعل منه محط اهتمام البشر منذ آلاف السنين. يقع البحر الميت في منطقة الأخدود الأفريقي العظيم، بين الأردن وفلسطين المحتلة، ويُعتبر أخفض نقطة على سطح اليابسة بعمق يصل إلى حوالي 430 متراً تحت مستوى سطح البحر. هذه الخصوصية الجغرافية جعلت منه بحيرة ملحية ذات سمعة عالمية، حيث يقصده السياح والباحثون والعلماء على حد سواء لاستكشاف أسراره والاستفادة من فوائده العلاجية.

الموقع الجغرافي والخصائص الطبيعية
يمتد البحر الميت على طول يقارب 67 كيلومتراً، بينما يتراوح عرضه بين 3 إلى 18 كيلومتراً. وعلى الرغم من تسميته بالبحر، إلا أنه في الحقيقة بحيرة مغلقة لا تتصل بالمحيطات. مصدره الرئيسي هو نهر الأردن الذي يصب مياهه فيه من الشمال، إضافة إلى بعض الوديان الصغيرة مثل وادي الموجب ووادي الكفرين.
يمتاز البحر الميت بملوحته العالية التي تصل إلى 34% تقريباً، أي ما يقارب عشرة أضعاف ملوحة المحيطات. هذه النسبة الكبيرة من الأملاح تجعل الحياة البحرية شبه معدومة فيه، ولهذا أطلق عليه اسم "البحر الميت". فلا تعيش فيه الأسماك ولا النباتات المائية، وإنما يقتصر وجود الكائنات فيه على بعض أنواع البكتيريا والفطريات الدقيقة القادرة على التكيف مع الظروف القاسية.
الخصائص الكيميائية والفوائد الصحية
يتكون البحر الميت من خليط غني بالمعادن النادرة التي لا تتوفر بنفس النسبة في أي مسطح مائي آخر في العالم. فهو يحتوي على نسب عالية من المغنيسيوم، البوتاسيوم، الكالسيوم، البروميد، إضافة إلى الصوديوم. هذه التركيبة جعلت من مياهه وطينه مادة علاجية تجذب ملايين الزوار سنوياً.
الطين الأسود المستخرج من قاع البحر الميت يُستخدم منذ العصور القديمة في العلاجات الجلدية والتجميلية. فهو يساعد في تخفيف التهابات الجلد، وعلاج الصدفية، وحب الشباب، ويعمل على تنشيط الدورة الدموية. أما مياه البحر نفسها، فقد أثبتت الدراسات أن السباحة فيها تساعد على استرخاء العضلات وتخفيف آلام المفاصل بفضل محتواها من المعادن. كما أن استنشاق الهواء الغني بالأوكسجين في المنطقة يُفيد مرضى الربو وأمراض الجهاز التنفسي.
البحر الميت عبر التاريخ
لم يكن البحر الميت مجرد بحيرة مالحة، بل كان مسرحاً لأحداث تاريخية ودينية هامة. ورد ذكره في الكتب المقدسة مثل التوراة والإنجيل والقرآن الكريم. فهو يقع بالقرب من منطقة "سدوم وعمورة" التي ارتبطت بقصة قوم لوط عليه السلام. كما كان عبر التاريخ موقعاً لتبادل التجارة بين الحضارات القديمة، حيث استخرجت منه الأملاح والمعادن واستُخدمت في صناعة البخور والتحنيط عند المصريين القدماء.
وفي العصر الروماني، اشتهر البحر الميت بكونه مركزاً للعلاج والاستجمام، إذ كان الأباطرة والجنود الرومان يقصدونه للاستفادة من خصائصه الطبية. كما عُثر بالقرب منه على مخطوطات أثرية شهيرة تُعرف بـ مخطوطات البحر الميت التي اكتُشفت في كهوف قُمران عام 1947، وهي من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين، إذ ألقت الضوء على الديانات القديمة ونصوصها.
السياحة والعلاج الطبيعي
اليوم، يُعتبر البحر الميت وجهة سياحية عالمية يقصده الزوار من مختلف أنحاء العالم. فمشهد الطفو على سطح مياهه من دون أي مجهود يُعد تجربة فريدة لا مثيل لها. كما تنتشر على ضفافه المنتجعات الصحية والفنادق التي تقدم برامج علاجية تعتمد على مياه البحر وطينه.
وتُقام في المنطقة العديد من الأنشطة السياحية مثل التخييم، تسلق الجبال المحيطة، وزيارة المحميات الطبيعية القريبة مثل محمية الموجب ودبين. وتُشكل السياحة العلاجية فيه رافداً اقتصادياً مهماً للأردن وفلسطين، إذ يجذب آلاف المرضى الباحثين عن علاج طبيعي لأمراض الجلد والمفاصل.
التهديدات البيئية التي تواجه البحر الميت
رغم شهرته العالمية، يواجه البحر الميت خطراً وجودياً يتمثل في الانحسار المستمر لمنسوب مياهه. فخلال العقود الأخيرة، تراجع مستواه بمعدل متر سنوياً، مما أدى إلى تقلص مساحته بشكل ملحوظ. ويرجع السبب الرئيسي لذلك إلى تحويل مياه نهر الأردن وروافده للاستخدام الزراعي والصناعي، إضافة إلى مشاريع استخراج الأملاح والمعادن.
هذا الانحسار أدى إلى ظهور ظواهر بيئية خطيرة مثل الحفر الانهدامية التي تنتشر حول شواطئه، مسببة تهديداً للبنية التحتية والمناطق السكنية والسياحية. كما أن انكماش البحر الميت يهدد التوازن البيئي في المنطقة، ويضعف من جاذبيته السياحية.
ولإنقاذ البحر الميت، طُرحت عدة مشاريع أبرزها مشروع قناة البحرين (الأحمر – الميت)، الذي يهدف إلى جلب المياه من البحر الأحمر وضخها في البحر الميت للحفاظ على مستواه. إلا أن المشروع يواجه تحديات سياسية وبيئية كبيرة.
البحر الميت بين الأسطورة والعلم
منذ القدم ارتبط البحر الميت بالأساطير والخرافات، إذ كان يُعتقد أن مياهه تحمل قوى خارقة وتشفي جميع الأمراض. كما انتشرت حوله قصص عن الكنوز المدفونة والمدن الغارقة. ومع تطور العلم، تبيّن أن لهذه الاعتقادات أساساً واقعياً، فالمعادن الموجودة فيه لها بالفعل فوائد علاجية مثبتة. لكن العلم أيضاً كشف المخاطر التي تهدد استمراره، وأكد أن الحفاظ عليه مسؤولية دولية تتجاوز حدود الدول المطلة عليه.
أهمية البحر الميت اليوم
البحر الميت اليوم ليس مجرد معلم طبيعي، بل هو تراث إنساني عالمي يجمع بين التاريخ والدين والطب والطبيعة. قيمته تتجاوز البعد المحلي ليُصبح رمزاً للتوازن بين الإنسان والبيئة. إن استمرارية وجوده مرهونة بالوعي البيئي والسياسات المائية العادلة، إضافة إلى التعاون الإقليمي بين الأردن وفلسطين والجهات الدولية.
إن حماية البحر الميت تعني حماية إرث حضاري وطبيعي فريد من نوعه، والحفاظ على مصدر اقتصادي وسياحي وصحي لا مثيل له. فبينما يقصده البعض للاستجمام، يراه آخرون مختبراً علمياً لدراسة التغيرات البيئية، فيما يعتبره المؤمنون رمزاً دينياً وتاريخياً عريقاً.
خاتمة
البحر الميت هو لوحة متكاملة تجمع بين عجائب الطبيعة وروح التاريخ. فهو أعمق نقطة على سطح الأرض، وأعلى البحيرات ملوحة، ووجهة علاجية وسياحية عالمية. لكن هذه الأعجوبة مهددة بالاندثار إذا لم يتم تدارك الأخطار البيئية التي تواجهها. لذا، فإن مسؤولية إنقاذ فالبحر الميت تقع على عاتق المجتمع الدولي، كونه إرثاً إنسانياً فريداً لا يتكرر.