
ما هو التاروت ؟
التاروت: ما بين الرمزية والجدل
يُعتبر التاروت من أكثر الظواهر الثقافية والرمزية إثارة للجدل في التاريخ الإنساني. فهو بالنسبة للبعض مجرد لعبة ورق نشأت في أوروبا، بينما يراه آخرون أداة للتبصير والتنجيم أو حتى وسيلة للتأمل النفسي والروحي. وبين هذه الرؤى المختلفة، بقي التاروت رمزاً غامضاً يجذب الملايين حول العالم.
النشأة والتطور
تعود أصول أوراق التاروت إلى أوراق اللعب التي ظهرت أولاً في الصين، ثم انتقلت عبر طرق التجارة إلى العالم الإسلامي، حيث ظهرت أوراق المماليك في مصر خلال القرن الرابع عشر. هذه الأوراق كانت مقسمة إلى أربع مجموعات: السيوف، الكؤوس، العصي، والدنانير. وعندما وصلت إلى أوروبا، خصوصاً إيطاليا وإسبانيا، تطورت لتصبح لعبة للنبلاء عُرفت باسم "Tarocchi". ومع مرور الوقت، ارتبطت الأوراق بالفلسفة والرمزية الروحانية، وخاصة خلال عصر النهضة.

بنية أوراق التاروت
بنية أوراق التاروت ثابتة تقريباً في جميع الأنظمة، وتتكون عادة من ٧٨ ورقة تنقسم إلى قسمين رئيسيين:
1. الأسرار الكبرى (Major Arcana)
عددها ٢٢ ورقة.
تُعتبر قلب التاروت، وتمثل مراحل الرحلة الروحية والوجودية للإنسان، كل ورقة تحمل رمزاً عميقاً يعبّر عن تجربة حياتية أو درس وجودي.
أمثلة من هذه الأوراق:
الأحمق (The Fool): البداية، البراءة، الانطلاق نحو المجهول.
الساحر (The Magician): الإرادة، القوة، القدرة على الخلق.
الموت (Death): التحول، النهاية كبداية جديدة.
العالم (The World): الاكتمال، التوازن، الإنجاز.
2. الأسرار الصغرى (Minor Arcana)
عددها ٥٦ ورقة.
تشبه أوراق اللعب العادية، وتنقسم إلى ٤ مجموعات (Suits)، وكل مجموعة مرتبطة بجانب من جوانب الحياة:
1. العصي (Wands): ترمز للطاقة، الطموح، الإبداع.
2. الكؤوس (Cups): ترمز للعاطفة، الحب، العلاقات.
3. السيوف (Swords): ترمز للفكر، القرارات، الصراعات.
4. الدنانير/العملات (Pentacles): ترمز للمادة، المال، العمل، الاستقرار.
كل مجموعة تحتوي على:
١٠ أوراق مرقمة من (١ إلى ١٠).
٤ أوراق "المحكمة" (Court Cards): الملك (King)، الملكة (Queen)، الفارس (Knight)، والصف (Page).
الخلاصة:
إذن، أوراق التاروت = ٢٢ ورقة كبرى (ذات طابع رمزي/روحي) + ٥٦ ورقة صغرى (ذات طابع عملي/يومي).
وبهذا تمثل الأوراق معاً رحلة الإنسان الكبرى في الحياة، بجانب تفاصيله اليومية وصراعاته العاطفية والمادية والفكرية.
التاروت كأداة للتنجيم
منذ القرن الخامس عشر، بدأ استخدام التاروت في أوروبا ليس فقط كلعبة ورق، بل أيضاً كوسيلة للتنبؤ بالمستقبل. تعتمد قراءة التاروت على سحب الأوراق بطرق محددة، مثل "الصليب السلتي" أو "الثلاث بطاقات"، ثم تفسير الرموز وفقاً للسؤال المطروح. فمثلاً، ورقة "الموت" قد تُفسَّر على أنها نهاية مرحلة معينة، بينما ورقة "العاشقين" قد تعكس علاقة عاطفية أو قراراً مصيرياً.
يرى مؤيدو هذا الاتجاه أن التاروت قادر على إلقاء الضوء على أحداث قادمة أو مواقف غامضة، إذ يعتبرون أن الرموز تعمل كجسر بين القارئ والطاقة الكونية أو اللاوعي. ومن هنا، ارتبط التاروت بعالم التنجيم والسحر، ودخل في الممارسات الروحانية والجمعيات السرية مثل "الفجر الذهبي". ومع ذلك، لا توجد أدلة علمية تثبت دقة هذه القراءات أو قدرتها على التنبؤ بالغيب، الأمر الذي جعلها عرضة للانتقاد من العلماء ورجال الدين على حد سواء.
التاروت كمرآة نفسية
على الجانب الآخر، يرى علماء النفس – وعلى رأسهم كارل يونغ – أن التاروت ليس وسيلة للتنبؤ، بل أداة لفهم النفس. فكل ورقة تمثل أركيتايب (نموذجاً أصلياً) من النماذج الكامنة في اللاوعي الجمعي للإنسانية. فـ"الأحمق" يرمز إلى البداية والبراءة، و"الساحر" إلى الإرادة والإبداع، و"البرج" إلى الانهيار والتحرر من الأوهام.
وفقاً لهذا المنظور، عملية قراءة التاروت ليست اتصالاً بعالم غيبي، بل هي نوع من الإسقاط النفسي؛ حيث يقرأ الشخص رموز الأوراق وفق حالته الداخلية ومشكلاته الراهنة. وبذلك يصبح التاروت أداة تشخيصية تساعد الإنسان على التفكير بعمق في حياته، وتفتح له مسارات جديدة لاتخاذ القرار. حتى بعض المعالجين النفسيين يوظفون التاروت كوسيلة علاجية لبدء الحوار مع المريض أو لفهم حالته من زاوية رمزية.
الجدل بين الرؤيتين
الاختلاف بين النظرتين ينبع من وظيفة التاروت: هل هو وسيلة لاستكشاف المستقبل، أم مرآة للواقع النفسي؟ من الناحية العلمية، لا توجد دلائل على صحّة التنجيم، لكن الجانب النفسي يحظى بقبول أوسع، خاصة مع دعم مدرسة يونغ في التحليل النفسي. أما من الناحية الدينية، فيُرفض استخدامه للتنبؤ بالغيب، لكنه قد يُنظر إليه كرمزية ثقافية أو وسيلة للتأمل.
الجدل الديني والعلمي
تختلف المواقف من التاروت تبعاً للثقافات. ففي المسيحية، ارتبط التنجيم عموماً بالرفض من الكنيسة. وفي الإسلام، يُعتبر التاروت محرماً إذا استُخدم للتنبؤ بالمستقبل، باعتبار أن الغيب لا يعلمه إلا الله. أما من زاوية ثقافية أو فنية، فلا يزال التاروت مثار اهتمام الباحثين والفنانين.
من الناحية العلمية، لا توجد أي أدلة على قدرة التاروت على كشف المستقبل. ومع ذلك، يجد بعض الناس فيه وسيلة للتأمل الشخصي أو أداة علاجية تساعدهم على التفكير بعمق في قراراتهم.
التاروت في العصور الحديثة
شهد التاروت في العصور الحديثة تحولاً كبيراً من مجرد لعبة ورق أو أداة للتنجيم إلى ظاهرة ثقافية عالمية متعددة الأبعاد. فقد أصبح حاضراً في الأدب والفن والسينما وعلم النفس وحتى في التطبيقات الرقمية، مما جعله جزءاً من الثقافة المعاصرة التي تجمع بين الروحانية والبحث عن الذات.
من السرية إلى الانتشار
في القرون الماضية، ارتبط التاروت بجماعات باطنية وجمعيات سرية مثل "الفجر الذهبي" التي استخدمته لأغراض سحرية وروحانية. لكن مع بدايات القرن العشرين، بدأ التاروت يخرج من نطاق السرية ليصبح متاحاً لعامة الناس، خاصة بعد نشر مجموعات مشهورة مثل "تاروت رايدر-وايت" (Rider-Waite Tarot) عام 1909، والذي صممه آرثر إدوارد وايت ورسمته باميلا كولمان سميث. هذا الإصدار كان نقطة تحول، لأنه أتاح لأول مرة أوراقاً مرسومة بوضوح يمكن لأي شخص تفسيرها دون الحاجة لخبرة باطنية عميقة.
التاروت وثقافة “العصر الجديد”
مع صعود حركة العصر الجديد (New Age) في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، عاد التاروت ليُستخدم كأداة للتأمل، واكتشاف الذات، وفهم الطاقات الروحية. في هذه المرحلة، لم يُنظر إليه فقط كوسيلة للتنجيم، بل كخريطة رمزية للرحلة الإنسانية، ومصدر إلهام للتفكير في القرارات الحياتية.
التاروت في علم النفس الحديث
بالتوازي، وجد التاروت مكاناً في علم النفس، خاصة بعد أن أشار كارل يونغ إلى رموزه باعتبارها "أركيتايب" تعكس أنماطاً عميقة في اللاوعي الجمعي. بعض المعالجين النفسيين يوظفون أوراق التاروت اليوم في جلسات علاجية لتسهيل الحوار مع المرضى، حيث تساعد الرموز الغنية على التعبير عن المشاعر المكبوتة والأفكار الغامضة.
التاروت في الفنون والثقافة الشعبية
دخل التاروت بقوة إلى الأدب والسينما والفن التشكيلي في العصر الحديث. فقد صمّم فنانون مثل سلفادور دالي نسخاً فنية خاصة من أوراق التاروت، كما يظهر في العديد من الأفلام والروايات بوصفه رمزاً للغموض والقدر. هذه الصورة السينمائية والأدبية عززت حضوره في المخيلة الشعبية كرمز للسحر واللغز.
التاروت في العصر الرقمي
اليوم، لم يعد التاروت مقصوراً على الورق. فقد انتقل إلى العالم الرقمي عبر مواقع الإنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية، حيث يمكن لأي شخص إجراء "قراءة" افتراضية بضغطة زر. ورغم أن هذه القراءات لا تحل محل الخبرة الإنسانية في تفسير الرموز، فإنها جعلت التاروت أكثر انتشاراً وسهولة في الوصول.
الخاتمة
يبقى التاروت مزيجاً بين التاريخ والأسطورة، بين اللعب والرمزية، بين الإيمان والرفض. وهو يعكس في جوهره رحلة الإنسان الأزلية في البحث عن المعنى وفهم المجهول. وبغض النظر عن الجدل القائم حوله، فإن سر جاذبيته يكمن في قدرته على أن يكون مرآة للنفس بقدر ما يُظن أنه نافذة على المستقبل