ما لا تعرفه عن التلمود؟!

ما لا تعرفه عن التلمود؟!

تقييم 5 من 5.
1 المراجعات

 

المقدمة

التلمود يعد من أهم الكتب الدينية والفكرية في التراث اليهودي، وينظر إليه باعتباره المرجع الثاني بعد التوراة. فهو ليس مجرد كتاب واحد، بل موسوعة ضخمة تجمع بين الفقه الديني والتقاليد الشفهية، والنقاشات الفلسفية والقانونية، و التفسيرات المتعددة للنصوص المقدسة. ولقد شكل التلمود على مر العصور الإطار المرجعي الأساسي الذي يحدد أسس الحياة الدينية والاجتماعية لليهود، وامتد تأثيره ليشمل جوانب ثقافية وسياسية عديدة. لفهم التلمود، لا بد من النظر إليه انتاج تاريخ طويل من التدوين والنقاش والاجتهاد، مما يجعله مرآة لتطور الفكر الديني اليهودي عبر القرون.

أولاً: تعريف التلمود

التلمود كلمة عبرية تعني "التعليم" أو "الدراسة". وهو الكتاب الذي يحتوي على التقاليد الشفهية لليهود، والتي قيل إنها انتقلت من جيل إلى جيل منذ عهد موسى. وقد جمعت هذه التقاليد وصيغة في نص مكتوب عبر قرون طويلة. يتكون التلمود من قسمين أساسيين:

1. المشناه (Mishnah): وهي النص الأساسي الذي جمع التعاليم الشفهية، وصاغه الحاخام يهوذا الناسي في القرن الثاني الميلادي.

2. الجمارة (Gemara): وهي شروح وتفاسير للمشناه، تضم نقاشات الحاخامات والاختلافات بينهم، وتشكل الجزء الأكبر من التلمود.

ثانياً: نشأة التلمود

بعد دمار الهيكل الثاني في القدس عام 70م على يد الرومان، وجد اليهود أنفسهم في أزمة دينية وثقافية. فقد فقدوا مركز العبادة الرئيسي، وأصبحوا بحاجة إلى مرجع يحفظ هويتهم الدينية وينظم حياتهم في الشتات. عندها برزت الحاجة لتدوين التعاليم الشفهية التي كانت تنتقل من جيل إلى جيل، خشية ضياعها.

بدأ العمل على جمع المشناه في القرن الثاني الميلادي، تحت إشراف الحاخام يهوذا الناسي، الذي نجح في تلخيص القرون السابقة من التقاليد الشفهية. ثم جاء دور الجمارة في القرنين الثالث والخامس الميلاديين، حيث بدأ الحاخامات في بابل وفلسطين بشرح المشناه ومناقشتها. وهكذا نشأ لدينا نوعان من التلمود:

• التلمود الأورشليمي (القدسي): تم جمعه في فلسطين حوالي القرن الرابع الميلادي.

• التلمود البابلي: جُمِع في بابل (العراق حالياً) في القرن الخامس الميلادي، وهو الأوسع انتشاراً والأكثر تأثيراً بين اليهود.

image about ما لا تعرفه عن التلمود؟!

ثالثاً: مكونات التلمود

التلمود موسوعة ضخمة تتألف من آلاف الصفحات، وينقسم إلى:

1. المشناه: ستة أقسام رئيسية تسمى "سداريم"، تشمل:زرعيم: أحكام الزراعة والبركة. موعد: الشرائع الخاصة بالأعياد والسبت. نشيم: قوانين الزواج والطلاق. نزيكين: الأحكام المدنية والجنائية. قدشيم: القوانين المتعلقة بالقرابين والهيكل. طهاروت: قوانين الطهارة والنجاسة.

2. الجمارة: وهي التعليقات على المشناه، وتشمل نقاشات مطولة بين الحاخامات.

3. الميدراش: نصوص تفسيرية وأمثال وأقوال حكمية.

رابعاً: أهمية التلمود في الفكر اليهودي

التلمود ليس كتاباً مقدساً بالمعنى الحرفي كالتوراة، لكنه يُعتبر المرجع التشريعي والفكري الأعلى عند اليهود. ومن أهم وظائفه:

• شرح وتفسير أحكام التوراة.

• تحديد القوانين التي تنظم الحياة اليومية.

• توجيه السلوك الديني والاجتماعي.

• المحافظة على الهوية الدينية لليهود في الشتات.

خامساً: التلمود الأورشليمي والتلمود البابلي

1. التلمود الأورشليمي:

نشأ في مدارس الجليل بفلسطين، ويمتاز بالاختصار. لكنه لم يحظ بانتشار واسع بسبب الظروف السياسية الصعبة في فلسطين بعد الاضطهاد الروماني.

2. التلمود البابلي:

نشأ في المدارس اليهودية في بابل، وكان أكثر تفصيلاً وشمولية. ولذلك أصبح المرجع الرئيسي لليهود، وما زال يحظى بأهمية كبرى حتى اليوم.

سادساً: مكانة التلمود بين المذاهب اليهودية

• اليهود الأرثوذكس: يعتبرونه المرجع الأعلى بعد التوراة، ويقومون بدراسة التلمود بشكل يومي.

• اليهود الإصلاحيون: يتعاملون معه كتراث تاريخي، لا كقانون ملزم.

• اليهود المحافظون: يقفون موقفاً وسطاً، إذ يلتزمون بالتلمود لكن مع بعض المرونة في التفسير.

سابعاً: منهجية التلمود في النقاش

من أبرز سمات التلمود أسلوبه الجدلي، حيث يعرض الآراء المختلفة للحاخامات دون حسم في كثير من الأحيان. فيجد القارئ نقاشات طويلة حول مسألة بسيطة، مثل كيفية إشعال شمعة في السبت، أو تفاصيل دقيقة عن الطهارة. هذا الأسلوب جعل التلمود كتاباً مفتوحاً للاجتهاد المستمر.

ثامناً: التلمود واللغة

كُتب التلمود الأورشيمي بالعبرية مع بعض الآرامية، أما التلمود البابلي فمعظمه بالآرامية البابلية، وهي اللغة التي كانت شائعة بين اليهود في العراق.

تاسعاً: نقد التلمود

لقد أثار التلمود جدلاً واسعاً عبر التاريخ، سواء داخل اليهودية أو خارجها:

• داخل اليهودية: انتقد بعض الحاخامات توسع التلمود في النقاشات النظرية على حساب الممارسة العملية.

• خارج اليهودية: اتهمه المسيحيون في العصور الوسطى بالتحامل على غير اليهود، مما أدى إلى حرق نسخ كثيرة منه في أوروبا.

عاشراً: التلمود والحياة اليومية

يؤثر التلمود على تفاصيل الحياة اليومية لليهود المتدينين، من الأكل والشراب إلى المعاملات التجارية والأحوال الشخصية. فهو بمثابة "دستور حياة" ينظم أدق التفاصيل.

حادي عشر: أثر التلمود في الفكر العالمي

لا يقتصر التلمود على الجانب الديني، بل يحتوي على أفكار فلسفية وقانونية أثرت في مدارس الفقه والفلسفة لاحقاً. بعض الباحثين يرون أن منهجه الجدلي ألهم طرق التعليم والبحث العلمي في أوروبا.

ثاني عشر: التلمود في العصر الحديث

اليوم، ما زال التلمود يدرّس في المدارس الدينية اليهودية (اليشيفوت)، ويُعتبر دراسة التلمود من أعلى مراتب العلم الديني. كما تُنشر طبعات حديثة مترجمة منه إلى عدة لغات، مع شروح لتسهيل فهمه.

ثالث عشر: التلمود والانتقادات المعاصرة

في العصر الحديث، يوجه بعض المفكرين انتقادات إلى التلمود، منها:

• أنه يكرس الانغلاق على المجتمع اليهودي.

• أنه يحتوي على قوانين قد لا تتناسب مع العصر الحديث. لكن في المقابل، هناك من يراه تراثاً فكرياً عظيماً يجب دراسته بموضوعية.

الخاتمة

التلمود ليس مجرد كتاب ديني، بل موسوعة فكرية وثقافية، ساهمت في صياغة هوية اليهود عبر العصور. ورغم ما أثاره من جدل وانتقادات، فإنه يظل نصاً مركزياً لا يمكن فهم اليهودية بدونه. إن دراسة التلمود تفتح الباب أمام فهم أعمق للتاريخ الديني والفكري للشعب اليهودي، وتكشف عن كيفية تطور النصوص عبر الحوار والنقاش والجدل المستمر.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

14

متابعهم

9

متابعهم

5

مقالات مشابة
-