
معبر العملاق في إيرلندا
يعتبر التناظر في الطبيعة أمرا مسلما به في الأزهار والحشرات أو في وجه النمر على سبيل المثال . غير أنه نادر جداً في الجيولوجيا وحدوثه مدعاة للدهشة والعجب. وقد برهنت الطبيعة في معبر العملاق عن عبقرية فائقة في الرياضيات عندما أنتجت عشرات الآلاف من الأعمدة الصخرية ا لمتعددة الجوانب والمحتشدة معا كأنها رزمة من أقلام الرصاص السداسية الأضلاع.
وتبدو هذه الصخور من البعيد وكأنها امتداد آخر لساحل مقاطعة أنتريم الساحر، إلا أن العين تؤخذ فجأة بمنظر جرف ناتيء في البحر غريب كثير المضلعات . يخرج هذا النتوء من قاعدة الأجراف وينحدر انحداراً خفيفا في البحر وكأنه رصيف إنزال ضخم بدائي الطراز . وللحظة يبدو وكـأن الذهن قد أصيب بالدوار. فالمشهد الطبيعي يبدو أول وهلة كرسومات حاسوب صممت للعبة فيديو. لكن هذه العجيبة الجيولوجية الاستثنائية تعود أصولها إلى نحو 60 مليون سنة.
في ذلك العصر، بدأت قارتا أمريكا الشمالية وأوروبا المتصلتان معا بالانفصال. وانشق بينهما المحيط الأطلسي وأخذ يتوسع تدريجياً من أخدود بركاني مركزي في قاع المحيط واليوم، تقع إيسلندا ببراكينها النشطة المتعددة فوق هذا الأخدود. ونتجت مناطق الحمم البركانية في إيرلندا واسكتلندا من هذا الأخدود عندما بدأت القارتان رحلتهما البطيئة.
40 ألف عمود من البازلت:
شكلت الحمم المندفعة في مقاطعة أنتريم أكبر هضبة حممية في أوروبا . وكان المحتوى البازلتي في بعض الحمم متماسكاً على غير عادة. وعندما تصلبت الحمم تقلص حجمها، لكن قوى التقلص كانت موزعة بالتساوي فتكسرت الحمم بدقة هندسية متناهية. ويمكن مشاهدة العملية ذاتها عندما تجف طبقة سميكة من الطين تحت أشعة الشمس في قعر بركة ضحلة.
يبلغ متوسط عرض الأعمدة البازلتية في معبر العملاق حوالي 460 مليمتراً ويتراوح ارتفاع الواحد منها بين متر ومترين. ويبلغ عرض الممر عند أوسع نقطة فيه 180 مترا ، ويمتد إلى داخل البحر مسافة 150 مترا ويتألف من حوالي 40 ألف عمود.
وعلى مر آلاف السنين، أدى حت الأنهار الجليدية في العصر الجليدي واللطم المستمر لأمواج المحيط الأطلسي إلى إعطاء معبر العملاق الشكل الذي نراه اليوم. يتألف كل عمود بازلتي أساسا من سلسلة من القطع التي يبلغ طول الواحدة منها 360 مليمتراً التحتمت معا، لكنها من الممكن أن تنفصل تحت وطأة الضغط الشديد. لذا نرى أن الأقسام المكشوفة تتكسرر بين الفينة والأخرى بفعل تلاطم الأمواج وتنفصل عند خطوط الصدع بين القطع. وهذا ما أعطى المعبر شكلا متدرجاً.
يعتبر معبر العملاق أكثر المعالم البازلتية شهرة في هذه المنطقة الساحلية، بالرغم من وجود معالم أخرى هامة مثل الأجراف الواقعة وراء الممر وفي الخلجان المجاورة. وقد أطلقت على هذه المعالم على مر السنين ألقاب خاصة . فالأرغن مثلا هو مجموعة من الأعمدة العالية المطمورة في واجهة الجرف عند خليج بورت نوفر التالي. أما المدرج فهو خليج محاط بمجموعات غريبة من الأعمدة. ومن الأشكال البارزة الأخرى: غطاء قدر المارد، وكرسي التمنيات ، والملك ونبلاؤه.
عملاق عاشق:
ويلاحظ أيضا وجود أعمدة بازلتية مشابهة في جزيرة ستافا التي تقع قبالة الساحل الغربي لاسكتلندا، وخصوصا في كهف فنغال، على مسافة 120 كيلومترا إلى الشمال من ممر العملاق. وفي الواقع يعطي ممر العملاق الانطباع بأنه معلم تم نحته في البحر، من إيرلندا إلى ستافا، وهذا هو أساس الأسطورة التي استمد منها اسمه.
والعملاق المقصود هو بطل عظيم في الأساطير الشعبية الإيرلندية يدعى فين ماك كول (أو فيون ماك كومهيل) ، وهو قائد عصبة من المحاربين تسمى فيانا. وتتحدث الأساطير عن فين ماك كول بحيوية بالغة فتصف شهيته الكبيرة وشجاعته المقدامة ومغامراته المذهلة في الصيد. ومن بين الأسباب العديدة التي بررت بناء فين ماك كول الممر، القصة التي تقول إن البناء حصل بدافع التفاني والإخلاص في الحب. فقد نحت تلك الأعمدة واحدا بعد الآخر ورصفها ليقيم ممرا جافا كي تعبره حبيبته العملاقة التي تعيش في ستافا في إيرلندا من دون أن تبلل قدميها.