
الثقافة العامية عبر التاريخ: دراسة التحولات الشعبية وممارسات المجتمع
الثقافة العامية عبر التاريخ: دراسة التحولات الشعبية وممارسات المجتمع
كشف البحث العلمي عن صلة اللغة بالإنسان وبيئته، فهي تظهر المجتمع الإنساني على حقيقته، وقد اهتم بموضوع اللغة العلماء المختصون في العصور الحديثة، كما يحثه الأقدمون فكتبوا فيه على الطريقة التي سلكوها في علومهم القديمة. على أن نفراً غير قليل من غير ذوي الاختصاص في موضوعات اللغة قد يحث في الموضوع نفسه في خلال دراساتهم، ومن هؤلاء علماء الاجتماع وعلماء النفس والفلاسفة وآخرون غيرهم، وليس عجيباً فقد بحث الفلاسفة الأقدمون في موضوع اللغة، وكانت اللغة موضوعاً فلسفياً عندهم.
وللموضوع جوانب كثيرة وأبواب متعددة، فاللغة أساس كل أنواع النشاط الثقافي، " وهي بذلك خير دليل يهتدي بها الباحث إلى معالم أي من المجتمعات الحديثة".
ففي كل مجتمع مهما كانت طبيعته وسعته، تشغل اللغة مكانا ذا أهمية أساسية، إذ هي أقوى الروابط بين أعضاء هذا المجتمع، وهي في الوقت نفسه رمز إلى حياتهم المشتركة وضمان لها.
فما الأداة التي يمكن أن تكون أكثر كفاية من اللغة في تأكيد خصائص الجماعة ؟ فهي في مرانتها ويسرها، وامتلائها بالظلال الدقيقة للمعاني تصلح لاستعمالات متشعبة، وتقف موقف الرابطة التي توحد أعضاء الجماعة، فتكون العلامة التي بها يعرفون والنسب الذي إليه ينتسبون.
وليست اللغة رابطة بين أعضاء مجتمع واحد بعينه، إنما هي عامل مهم للترابط بين جيل وجيل، وانتقال الثقافات عبر العصور لا يتأتى إلا بهذه الوسيلة.
ومن أجل هذا كان على الباحثين أن يكتبوا تاريخاً واضحا لكثير من اللغات الحديثة، بادئين بـأقدم صورة للغة، متعقبين التطور التاريخي.
ولقد كان لمالينوفسكي العالم الأنثروبولوجي فضل كبير في لفت الأنظار إلى مفهوم جديد في اللغة، فقد أدرك عندما كان يدرس بعض المجتمعات التي اصطلح عليها بالمجتمعات (البدائية) أو (الفطرية) أو (الوحشية) ، أن دراسته لن تصح دون معرفة الوظيفة التي تقوم بها اللغة في المجتمع، وقرر مالينوفسكي بعد قيامه بهذه الدراسات في هذه المجتمعات، أن اللغة لم تكن وسيلة فقط للتفاهم والاتصال؛ فهي حلقة في سلسلة النشاط الإنساني المنتظم، وأنها جزء من السلوك الإنساني وهي ضرب من العمل، وليست أداة عاكسة للفكر. وهو يرى أن العامل الإنساني هو أصل مختلف الظواهر والنظم الاجتماعية، وهو يرى أن العمل الإنساني هو أصل مختلف الظواهر والنظم الاجتماعية، وتبرز نظريته في الصلة بين العمل واللغة ويرى أن مواقف العمل هي التي تعمل في تنويع اللغة، وهو يسجل في دراسته لمختلف قبائل أستراليا وجزر الهند الغربية أن للصيادين لغة تختلف موسيقاها عن موسيقى لغة الزراعيين؛ والألفاظ تدور في سهولة وخفة مع العمل اليسير، وتتعقد بتعقد العمل.
ومعلوم أن لكل زمن أو بيئة ذوقاً خاصاً في استعمال ألفاظ اللغة ويبدو ذلك في أدب الأمة ولا سيما في الجانب الشعبي منها، ولا يمكن أن نطبق ما تواضع عليه الناس من أساليب الذوق في هذا الباب في زمن معين، على لغة أو لهجة في زمن آخر أو بيئة أخرى.