بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية

بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية

0 reviews
image about بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية

في عام 1917، كتب اللورد آرثر بلفور رسالة قصيرة إلى اللورد روتشيلد، حملت في طياتها أكبر جريمة استعمارية عرفتها المنطقة العربية في القرن العشرين.

رسالة لا تتجاوز 67 كلمة، أُدرجت في التاريخ تحت مسمى "وعد بلفور"، لكنها لم تكن وعدًا، بل تواطؤًا استعماريًا مفضوحًا منح وطنًا لشعب لم يكن موجودًا، على أرضٍ يسكنها شعب لم يكن له صوت.

كانت بريطانيا آنذاك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تتحكم في الخرائط كما يتحكم جراح متهور في جسد مريض غافل. رسمت فلسطين بالقلم الأحمر، ووقّعت عليها بالحبر الأسود، ثم سلّمتها للحركة الصهيونية على طبق من نفاق سياسي، وسُمِّي ذلك "وعدًا".

مرت عقود، سالت فيها دماء، واندلعت حروب، وتكررت النكبات.

ولم يصدر من بريطانيا اعتذار.

لم تأتِ منها كلمة ندم واحدة.

بل ظلت تدافع عن مسؤوليتها وكأنها لم تُخطئ، متذرعة بذرائع الاستعمار الكلاسيكية: المصالح، التوازنات، ضرورة وجود وطن لليهود، وعدم وجود كيان فلسطيني آنذاك.

لكن الزمن يدور، والعدالة، وإن عرجت، تصل.

في عام 2025، وفي سياق متغير، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر موقفًا بدا للكثيرين صادمًا بقدر ما هو متأخر.

image about بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية
كير ستارمر رئيس الزوراء االبرياطاني

قالها صراحة: “إذا لم تتوقف إسرائيل عن حربها في غزة، فستعترف بريطانيا بدولة فلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل.”

لم يكن هذا الإعلان مجرد تحول دبلوماسي، بل كان لحظة انكسار في جدار الصمت البريطاني الطويل.

لقد احتاجت بريطانيا إلى 108 سنوات منذ وعد بلفور لتقول أخيرًا: “فلسطين دولة.”

لكن بين تلك الجملتين، يكمن تاريخ من التناقض والتقلب، بل من الازدواجية السياسية التي جعلت بريطانيا طوال عقود أقرب إلى إسرائيل من أي دولة أخرى.

خلال الانتداب البريطاني على فلسطين (1920–1948)، لعبت بريطانيا دور القابلة السياسية لولادة المشروع الصهيوني.

سهلت الهجرة اليهودية، سلّحت العصابات، غضّت الطرف عن مذابح ضد الفلسطينيين، وحين أتى موعد المغادرة، أبقت الجرح مفتوحًا، وانسحبت من فلسطين كما يدخل اللص ويغادر دون أثر إلا الدمار.

ثم جاء دعمها اللاحق لإسرائيل في المحافل الدولية، واصطفت في معظم المواقف مع واشنطن ضد أي مشروع لإدانة تل أبيب.

وحتى عندما ارتكبت إسرائيل مجازر واضحة، من دير ياسين إلى جنين، كانت بريطانيا "تدين العنف من الطرفين"، وتغض الطرف عن جذور الصراع.

 

في السنوات الأخيرة، بدأت تتغير نبرة بعض الدوائر السياسية البريطانية، بفعل الضغط الشعبي، واحتجاجات الشارع، وتحول الوعي داخل حزب العمال، خاصة بين جيل جديد يرى في دعم فلسطين قضية عدالة عالمية لا مجرد إرث صراع شرق أوسطي.

وصل هذا التحول إلى قمته مع كير ستارمر، زعيم حزب العمال الذي فاز في 2024، وأصبح رئيسًا للوزراء بعد انهيار ثقة البريطانيين بحزب المحافظين.

ولعل الضغوط الداخلية، خاصة من أعضاء حزبه ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى غضب الجامعات والنقابات، هي التي أجبرت ستارمر على تبني موقف أقرب إلى التاريخ من التحيز.

 

صحيح أن كير ستارمر لم يوقّع وعدًا لصالح الاحتلال، بل يهدد أخيرًا باعتراف ضدّه،

لكن المقارنة التاريخية تظل قائمة:

بلفور كتب للعالم أن "لليهود وطن في فلسطين" دون اعتبار للفلسطينيين.

وستارمر يقول إن للفلسطينيين الحق في دولة، بشرط أن تلتزم إسرائيل بشروط "السلام".

 

الفرق بين الوعدين؟

الأول أسّس للنكبة.

والثاني يحاول إنقاذ ما تبقى منها.

لكن كليهما صادر عن الدولة نفسها: بريطانيا.

الاعتراف البريطاني القادم، إن تم، سيكون خطوة تاريخية.

لكن دعونا نكن واضحين: الاعتراف وحده لا يكفي.

فلسطين تحتاج اعترافًا، نعم، ولكن تحتاج قبله وبعده:

رفع الحصار عن غزة

وقف الاستيطان في الضفة

حماية المقدسات في القدس

إنهاء الاحتلال العسكري بكل أشكاله

 

وهذه كلها لا تتحقق بقرار أممي، بل بإرادة دولية صلبة.

image about بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية

 

حين يحدَّد التاريخ مسبقًا لاعترافٍ سياسيّ كبير، يصبح الزمن نفسه لاعبًا في المعركة، وتغدو الأيام المتبقية أشبه بعدٍّ تنازليّ على قلب العالم.

سبتمبر.

الشهر التاسع في التقويم، كان دومًا شهرًا رمزيًا في السياسة الدولية:

— بداية دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة،

— موسم الحروب الباردة والتسويات الساخنة،

— شهر الصفقات الكبرى والخطابات المدوية.

لكن في سبتمبر 2025، تقف بريطانيا أمام لحظة مفصلية:

إما أن تفي بوعدها وتعترف رسميًا بدولة فلسطين،

أو تتراجع تحت ضغط إسرائيل وواشنطن، وتعيد تدوير خيبتها القديمة.

فما الذي يعنيه هذا الاعتراف؟

وما الذي يمكن أن يحدث في أروقة الأمم المتحدة؟

ولماذا اختارت بريطانيا هذا الموعد تحديدًا؟

 

الاعتراف بدولة لا يتم دائمًا عبر الأمم المتحدة، بل يمكن لأي دولة أن تعترف بأخرى من جانبها الأحادي.

لكن عندما يُعلَن الاعتراف على منصة الجمعية العامة، فهو يكتسب بعدين مهمين:

1. رمزية عالمية أمام 193 دولة.

 

2. ضغط دبلوماسي جماعي على الأطراف المترددة.

 

وبريطانيا، حين تختار الجمعية العامة كمسرح لإعلانها، فهي لا تخاطب الفلسطينيين فقط، بل:

تخاطب إسرائيل بلغة التهديد الدبلوماسي،

وتخاطب الولايات المتحدة بلغة التحذير من العزلة،

وتخاطب أوروبا بلغة القيادة السياسية.

 

هذا الإعلان قد يكون بمثابة بداية لموجة جديدة من الاعترافات الجماعية، كتلك التي اجتاحت أوروبا الشرقية والجنوبية مؤخرًا (إسبانيا، أيرلندا، النرويج...).

 

اختيار سبتمبر ليس عبثًا.

فهو يتزامن مع:

بداية الدورة الجديدة للأمم المتحدة،

وانعقاد مؤتمرات دولية موازية لدعم حل الدولتين،

ونهاية موسم الصيف السياسي حيث تستفيق الدبلوماسية من سباتها.

 

لكن هناك خطرًا كامنًا في هذا التوقيت:

إسرائيل وحلفاؤها يعلمون بالموعد، وسيسعون لإفشاله.

قد تُكثّف عملياتها في غزة،

أو تُفتعل أزمة أمنية،

أو يُمارَس ضغط أمريكي خلف الأبواب.

المعركة قد لا تكون في نيويورك وحدها، بل في غزة، وفي الضفة، وفي كواليس العواصم الكبرى

 

قالت بريطانيا بوضوح:

> "سنعلن الاعتراف إذا لم تتخذ إسرائيل خطوات جوهرية لإنهاء الوضع المروع في غزة".

 

الشرط واضح، لكن غامض في تفاصيله:

ما المقصود بـ"خطوات جوهرية"؟

هل يكفي وقف القصف؟ أم يتطلب إنهاء الحصار؟

وماذا لو تظاهرت إسرائيل بخطوات وهمية؟

 

الاعتراف المشروط في السياسة لا يختلف عن "الحب المشروط" في العلاقات:

— يبدو منطقيًا، لكنه هش.

— يخضع للتأويل، وسهل الإلغاء، وتحت رحمة المساومات.

وهنا تكمن المعضلة:

هل ستجد بريطانيا نفسها في سبتمبر أمام ضرورة الاعتراف من باب المصداقية،

أم ستتهرب تحت ستار غموض الشروط؟

اسرائيل 

— سترى في الاعتراف البريطاني "طعنة في الظهر" من دولة كانت تعتبرها حليفًا دائمًا.

— ستحاول إفشال الخطوة عبر الضغط على واشنطن، والتصعيد الميداني، وربما تهديد المصالح البريطانية في الشرق الأوسط.

. الولايات المتحدة

— ستحاول إبطاء القرار.

— قد تلوّح بـ"خطر انقسام الموقف الغربي".

— ستستخدم أدواتها الناعمة داخل حزب العمال.

. الاتحاد الأوروبي

— منقسم.

— دول الشمال والشرق أكثر دعمًا لفلسطين.

— ألمانيا وهولندا مترددة.

— فرنسا متقدمة، وتُرحّب علنًا بالخطوة البريطانية.

. العالم العربي

 

— ترحيب دبلوماسي، لكن بدون ضغط فعلي لتسريع المسار.

_ مصر ترحب بالاعتراف وتؤيد حل الدولتين

— السعودية تلعب دور الوسيط في مؤتمر "حل الدولتين".

— الإمارات تراقب بصمت، وقطر توازن بين دور الوسيط وحساباتها الدولية

image about بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية

 

قبل أكثر من قرن، وقّعت بريطانيا وفرنسا اتفاقية سايكس–بيكو التي قسمت المشرق العربي كغنيمة.

اليوم، تقف الدولتان على مسافة أخرى:

باريس اعترفت،

ولندن على وشك أن تفعل.

 

فهل يكون هذا الاعتراف بداية لإنهاء التقسيم بالاحتلال؟

أم مجرد إعادة توزيع للصراع وفق خرائط ناعمة؟

image about بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية

في خريطة الوجع الفلسطيني، تبقى غزة هي النقطة الأكثر توهجًا بالألم، والأكثر صخبًا بالصمت.

ومنذ أن تحوّلت إلى ساحة حرب دائمة، بات العالم يقيس المأساة من عدد الشهداء، لا من أعمارهم.

وبعد عدوان 2023–2025، لم تعد غزة مجرد عنوان


 للحصار، بل صارت عنوانًا للتحول الدولي في الموقف من فلسطين.

إنه الدم، حين يفيض، يكسر صمت الدول، ويقلب مواقف العواصم.

هكذا دخلت غزة إلى معادلة الاعتراف البريطاني، لا من باب السياسة، بل من باب الشهادة.

لم يكن ستارمر ليخاطر بهذا الاعتراف، لولا المجازر.

ولولا صور الأطفال تحت الركام،

ولولا شهقة الضمير العالمي التي انفجرت بعد أن خُنق العالم بصور الموت المجاني.

في حرب غزة الأخيرة، لم يكن الأمر مجرد "تصعيد" كما تصفه بيانات الحكومات،

بل كان مشهدًا متواصلًا من الإبادة الممنهجة،

مجازر في المدارس، وفي المخيمات، وفي المستشفيات،

جثث محترقة، أبراج مدمرة، ومخيمات تتحول إلى مقابر جماعية.

وبينما صمتت الحكومات، صرخت الشعوب:

مظاهرات في لندن وباريس وروما ومدريد. 

جامعات تقاطع إسرائيل.

نقابات تطالب بطرد السفراء.

ونجوم عالميون يصرّحون ضد الإبادة.

 

فوق هذا، شهدت الصحافة الغربية تحولًا لافتًا:

استخدمت لأول مرة كلمات مثل "فصل عنصري"، "جرائم حرب"، "إبادة جماعية".

لم تعد الرواية الصهيونية مقنعة أمام الفيديوهات الحيّة من غزة.

 

العالم تغيّر لأن غزة نزفت بما يكفي.

 

---

image about بريطانيا تعترف بفلسطين: بين تأخر التاريخ وتقدم الإرادة الدولية

 

إسرائيل قد تكون  اتنتصرت عسكريًا، لكنها هُزمت في ساحة الرأي العام.

فقد تراجعت صورتها كضحية، وبدأت تظهر كجلاد.

حتى في أمريكا، بدأ الشباب اليهود يتظاهرون ضد سياسات تل أبيب.

ورغم امتلاكها أدوات إعلامية ضخمة، فشلت إسرائيل في إقناع العالم بـ"حقها في الدفاع"،

لأن الصور كانت أقوى من الروايات،

ولأن دماء غزة فضحت الأكاذيب.

بريطانيا، الغارقة لعقود في الدفاع عن إسرائيل، وجدت نفسها فجأة في مواجهة غضب داخلي حاد.

لم تعد قادرة على الصمت.

فالحزب الحاكم مهدد بالانقسام،

والنقابات تضغط،

والشباب في الجامعات يطالبون بقطع العلاقات.

فجاءت لحظة القرار:

“إذا لم تتوقف إسرائيل، سنعترف بفلسطين.”

 

.الحرب  تجاوزت منطق المعركة إلى منطق المجزرة.

ولأنها لم تكن حربًا على مقاومين فقط، بل على شعب بأكمله.

وربما لم تشهد أوروبا تحولًا أخلاقيًا بهذا الشكل منذ مجازر البوسنة في التسعينيات.

الفرق أن البوسنة حصلت على حماية دولية،

أما غزة فما زالت تقاتل لتُنتزع من ذاكرة العار العالمي.

 

قد تكون البيانات الحكومية باردة، والقرارات السياسية بطيئة،

لكن دماء غزة تسير أسرع من البيروقراطية.

في مؤتمر الأمم المتحدة الذي شاركت فيه بريطانيا والسعودية وفرنسا، لم يكن حديث السياسة مجرد شعارات،

بل جاء مدفوعًا بحقائق ميدانية لا يمكن إنكارها:

أكثر من 30 ألف شهيد، معظمهم من المدنيين.

تدمير شامل للبنية التحتية.

أكثر من مليون نازح.

منع المساعدات، ومنع دخول الوقود والماء.

 

هذه الأرقام ليست إحصاءات، بل جرائم تتراكم أمام الضمير العالمي.

 

الغريب – أو المعجزة – أن غزة، رغم كل هذا، لم تُهزم.

بل خرجت من تحت الركام لتعيد ترتيب أوراق العالم.

أجبرت بريطانيا على التراجع خطوة.

دفعت فرنسا إلى إعلان الاعتراف.

ألزمت ألمانيا بإعادة النظر في دعمها الأعمى لإسرائيل.

وفتحت الباب أمام دول أخرى للتجرؤ.

لقد تحولت غزة من "عبء دبلوماسي" إلى "محرّك سياسي".

ولأول مرة، تكتب الضحية التاريخ.

 

 

يتبع... قريباتتابعنا

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

1

followings

1

followings

2

similar articles