
ضم المدينة المنورة في عهد الملك عبدالعزيز
شهدت الجزيرة العربية تغيرا سياسياً كبيرا مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وخروج القوات العثمانية من جميع أراضيها؛ حيث ظهرت قوة الأشراف في الحجاز على رأسها الشريف حسين، وفي نجد كانت الدولة السعودية وسلطانها عبدالعزيز ، وعادت الخلافات تظهر بينهما حول واحتي الخرمة وتربة، وكل منهما يرى ملكيته لها، خاصة بعد دخول أميرها خالد بن لؤي في الدعوة السلفية وطلبه الحماية من الملك عبدالعزيز.
فأخذت العلاقات بينهما منحى خطيراً عندما أرسل الشريف حسين في شهر رجب 1336هـ/ أواخر شهر مايو 1918م ثلاث حملات عسكرية إلى الخرمة، ولكنها منيت جميعها بالفشل على يد قوات الأمير خالد ابن لؤي.
إلا أن الشريف حسينا لم ييأس من إخضاع الخرمة وتربة إلى نفوذه ؛ خاصة بعد استسلام الحامية العثمانية في المدينة المنورة؛ حيث اعتقد أن في استطاعة القوة التي كانت تحاصر المدينة أن تكتسح حدود نجد الغربية، فأرسل أمره إلى ابنه الأمير عبدالله بالتوجه بقواته إلى الخرمة لإخضاعها لنفوذه.
فوصل الأمير عبدالله إلى تربة ودخلها دون قتال في 24 شعبان 1337هـ / 25 مايو 1919م.؟
كان الملك عبدالعزيز يراقب تحركات الأمير عبدالله ، وعندما تأكد من رغبته في مهاجمة تربة والخرمة أمر بالتعبئة العامة لأهل نجد، وجهز جيشا قوامه ألف ومائتا مقاتل من الهجانة، أسند قيادتها إلى سلطان ابن بجاد أمير الغطغط، وأمرها بالمسير نحو الخرمة للالتقاء بقوات خالد بن لؤي للوقوف في وجه الأمير عبدالله الذي لن يجد صعوبة في دخول تربة، وهو ما جعله يستهين بالقوات السعودية.
وفي منتصف ليلة 25 شعبان 1337هـ/ 26 مايو 1919م زحفت قوة الملك عبدالعزيز مع قوات الأمير خالد بن لؤي، وأخذوا زمام المبادرة وهجموا على جيش الأمير عبدالله، واستولوا على ما كان مع عبدالله بن الحسين من أسلحة ومؤن وأموال.
وبعد أسبوع من المعركة وصل الملك عبدالعزيز بجيش كبير إلى تربة؛ ولكنه اكتفى بما تحقق له في هذه المعركة ولم يحاول التقدم إلى مكة، وشعر الحسين بضعف مكانته وتدهور موقفه، فاستنجد بالبريطانيين لمنع تقدم السعوديين إذا توجهوا إلى مكة.
فأرسلت الحكومة البريطانية برقية في 5 رمضان 1337هـ/ 4 يونيو 1919م تطلب من الملك عبدالعزيز أن يرجع إلى نجد ويترك تربة والخرمة منطقة غير مملوكة لأحد حتى يتم عقد الصلح وتحدد الحدود بين الطرفين، وتحذره من التوغل في الحجاز وتعده محاربا لها إن لم يرجع ، فما كان من الملك عبدالعزيز إلا الانسحاب من تربة بعد أن عين فيها أميرا من قبله.
كان لمعركة تربة نتائج كبيرة وآثار عظيمة على الساحة السياسية؛ فقد اهتزت مكانة الشريف حسين بين أتباعه، وفقد قواته . فجعله يتخذ مواقف متشددة؛ حيث قطع التعامل التجاري مع النجديين، ومنعهم من الحج سنتي 1338-1339هـ/1920-1921م، ثم توسطت بريطانيا بينه وبين الملك عبدالعزيز ، فأذن لهم في سنة 1340هـ/ 1922م على أن يكون عددهم قليلا، فقبلوا، ثم عاد في سنة 1341هـ/ 1923م وأعلن منعهم من الحج إلا إذا انسحبوا من الجوف ورنية وبيشة وتربة والخرمة.
لم رأت بريطانيا تقدم الملك عبدالعزيز رحمه الله في المنطقة، دعت إلى عقد مؤتمر لمناقشة الحدود مع نجد بحضور الملك عبدالعزيز والملك فيصل ملك العراق والأمير عبدالله أمير شرقي الأردن والشريف حسين ملك الحجاز؛ لكن الحسين رفض الجمهور حتى ينسحب الملك عبدالعزيز من جميع المناطق التي ضمها إلى حكمه بعد الحرب العالمية الأولى.
وانعقد المؤتمر في دولة الكويت سنة 1342هـ/ 1923م دون حضور مندوب الحجاز؛ حيث حضر مندوب العراق وشرق الأردن؛ لكن المؤتمرين لم يصلوا إ لى اتفاق؛ خاصة أن ممثلي العراق والأردن تعرضوا لأمور متصلة بالحجاز وهو ما أفشل المؤتمر.
إن فشل مؤتمر الكويت جعل بريطانيا تبتعد عن سياسة الشريف حسين المتهورة، وزادت قناعة الملك عبدالعزيز بأنه لا أمل في مصالحة الشريف حسين ولا في السماح لأهل نجد بالحج، فدعا إلى مؤتمر في الرياض في ذي القعدة 1342هـ/ يوليو 1924م برئاسة والده، وحضره العلماء وأمراء البلدان وقادة الإخوان وشيوخ القبائل لمناقشة مسألة منع الحسين لأهل نجد من الحج. وافتتحه والده الإمام عبدالرحمن بالإشارة إلى تذمر أهل نجد من منعهم من الحج، ثم شرح الملك عبدالعزيز أبعاد الموقف، وتوصل الجميع إلى قرار دخول الحجاز وتخليصه من الحسين، وفتح باب الحج لأهل نجد، ووضع حد لسياسة الشريف حسين البعيدة عن القصد والاعتدال.
ضم الحجاز:
فما كان ينقضي حج عام 1342هـ/ 1924م حتى بدأ الملك عبدالعزيز بإرسال حملتين عسكريتين إلى حدوده مع العراق وشرقي الأردن استعدادا لصد أي حركة عسكرية ضده من البلدين اللذين يحكم فيهما رسميا أبناء الحسين، ولقطع الإمدادات الحربية إذا أرسلت إلى حكومة الحجاز.
ويهدف أيضا من وراء ذلك إلى التغطية والتمويه على جيشه الكبير الذي بعثه إلى الحجاز بقيادة سلطان بن بجاد وخالد بن لؤي قوامه ثلاثة آلاف ومعهما رؤساء الهجر وشيوخ القبائل والحاضرة.
اجتمعت القوات في تربة، ثم توجهت إلى الطائف واستولت على مخفر كلاخ – وهو أحد مخافر الحكومة الهاشمية - ، ثم واصلت تقدمها ووصلت إلى الحوية في غرة صفر 1343هـ/ 1924م . وما كان أحد يعلم بهذا الهجوم المباغت من أهل مكة وأهل الطائف ولا حتى الحكومة الهاشمية إلا حينما دخل الجيش السعودي الحوية وتقابل مع الجيش الهاشمي الذي خرج من الطائف، فدارت معركة حامية تراجع فيها الهاشميون إلى الطائف، فأمر الشريف حسين ولده الأمير عليا بالذهاب إلى الطائف للدفاع عنها، فوصلها؛ إلا أنه انسحب منها إلى الهدا، فدخل مدينة الطائف في 7 صفر 1343هـ/ 7 سبتمبر 1924م . وجمع الشريف حسين كل ما لديه من جنود وبعثهم إلى الهدان فالتقوا بقوات الملك عبدالعزيز في معركة فاصلة ليلة 26 صفر 1343هـ/ 26 سبتمبر 1924م فانهزم الأمير علي وعاد إلى مكة.
اضطربت الحالة في الحجاز بعد الهزائم التي حلت بالجيش الهاشمي، ورأى الملك حسين وكبار الأشراف في مكة ضرورة الانسحاب إلى جدة. وفي هذه الفترة الحرجة قام أهل مكة بالاتفاق مع أهل جدة مطالبين الشريف حسينا بالتنازل عن العرش لولده علي ظناً أن هذا التنازل يرضي الملك عبدالعزيز فيرجع إلى نجد.
فاجتمعوا في دار الحكومة في جدة يوم 5 ربيع الأول 1343هـ/ 4 أكتوبر 1924م وبايعوا الأمير عليا ملكا على الحجاز. وغادر بعد ذلك الشريف حسين مع عائلته جدة متوجهاً إلى العقبة على ظهر الباخرة الرقميتين في 14 ربيع الأول 1343هـ/ 13 أكتوبر 1924م.
وصل الجيش السعودي إلى الزيمة في 15 ربيع الأول 1343ه/ 14 أكتوبر 1924م ، مما جعل الشريف عليا ينسحب إلى جدة ويتحصن بها استعدادا للحرب، فدخل الجيش السعودي مكة المكرمة محرماً في 17 ربيع الأول 1343هـ/ 16 أكتوبر 1924م بدون قتال، وصار خالد بن لؤي أميراً على مكة .
أ-حصار القوات السعودية للمدينة المنورة:
وضع الملك عبدالعزيز استراتيجية خاصة لضم المدينة مع بدء توجيهه لضم الحجاز، فعين إبراهيم النشمي مسؤولا عن أعمال المدينة المنورة، وأمره بالتوجه إلى الحناكية والتمركز بها ؛ لثقته به، ومعرفته بالمدينة المنورة وبأهلها؛ لما يتمتع به من علاقة جيدة مع القبائل المحيطة بها اكتسبها من خلال عمله في تجارة السلاح.
وبعد دخول الجيش السعودي مكة المكرمة أخذ الملك عبدالعزيز في 17 ربيع الأول 1343هـ/ 16 أكتوبر 1924م يكمل استعداداته الحربية والترتيبات الضرورية لضم باقي مدن الحجاز ، فحشد الجيوش ووزع قادته عليها؛ حيث جعل الأمير عبدالعزيز بن مساعد على القصيم وحائل إلى حدود الأردن، وجعل تحت أمره عدة ألوية، وجعل الأمير عبدالله بن جلوي على الأحساء إلى حدود العراق، وأبقى ابنه الأمير سعودا في الرياض، وتحت أمره لواء، وكذلك الأمير فيصل، وتحت أمره لواء، ومجموعة من القادة كقوة احتياطية.
وقبل خروج الملك عبدالعزيز من الرياض أرسل قائده صالح بن عذل في مطلع شهر ربيع الآخر 1343هـ/ نوفمبر 1924م على رأس قوة من أهل القصيم وهجر حرب إلى الحناكية لتسلم القيادة من إبراهيم النشمي.
إن اختيار الملك عبدالعزيز لصالح بن عذل كان لشخصيته القيادية ودبلوماسيته السياسية التي اكتسبها مع مرور السنين، فقد كان يبلغ من العمر آنذاك قرابة السبعين عاما، بينما كان مساعده إبراهيم النشمي لم يتجاوز الثلاثين.
كان لانتشار قوات الملك عبدالعزيز أثر كبير على أهالي المدينة حينما رأوها حولهم في شمال المدينة وفي القصيم وفي مكة؛ مما دفع بعض أهل المدينة إلى إرسال وفد إلى الملك عبدالعزيز يعلن طاعتهم له، ويطلب إرسال قوة لتتسلم المدينة المنورة ، إضافة إلى قيام بعضهم بإرسال الرسائل يطلبون فيها ضم المدينة المنورة لنفوذه، فرحب الملك عبدالعزيز بذلك وأرسل قوة قليلة من الجيش إلى المدينة المنورة بقيادة صالح بن عذل.
غادر الملك عبدالعزيز الرياض يوم 13 ربيع الآخر 1343هـ/ 11 نوفمبر 1924م بجيش كبير قوامه خمسة آلاف ودخل مكة محرما هو ومن معه في 8 جمادي الأولى 1343هـ/ 5 ديسمبر 1924م ، وأقبل عليه السكان يرحبون به ويبايعونه، ووعدهم بإزالة الظلم ونشر الأمن والاستقرار.
أما أمير المدينة المنورة الشريف علي بن الحسين فقد غادرها في أواخر ذي القعدة سنة 1342ه/ يونيو 1924م لأداء الحج، فبقي في مكة بسبب دخول الجيش السعودي إلى الطائف، وترك وكيله الشريف أحمد بن منصور والقائم مقام الشريف شحات بن علي يديران شؤونها، إضافة إلى رئيس الديوان عبدالله عمير والقائد العسكري عبدالمجيد أحمد.
وكانوا يتابعون أخبار القوت السعودية وتقدمها، مما جعل قادتها يجتمعون مع أهل المدينة ويتشاورون معهم في الدفاع عنها من القوة القادمة إليهم مع صالح بن عذل، وقرروا الدفاع عنها وعدم تسليمها للقوات السعودية.
وقد تعهد عبدالمجيد باشا بالدفاع عنها بكل ما يملك من قوة وإمكانات، وبدأ بتوزيع قواته على منافذها وحفر الخنادق، وأقام الكمائن، وأمر بتنظيف مدافع القلعة، وجهزت للعمل مرة أخرى.
مع أن القوات التي كانت في المدينة المنورة محدودة بعد رحيل أبناء القبائل من الجيش بعد انتهاء الثورة العربية، ولم يبق إلا الجنود النظاميون من عناصر مختلفة قدروا بنحو (200) من البادية، و(340) من فلسطين وشرق الأردن، ونحو (250) من اليمنيين والتكارنة.
كان عبدالمجيد يجتمع مع كبار ضباطه في مركز القيادة في قصر الخالدية ويناقش معهم القضايا العسكرية والأمور الطارئة.
وصل صالح بن عذل والقوة التي كانت معه في أواخر ربيع الآخر 1343هـ/ نوفمبر 1924م إلى المدينة المنورة ليتسلمها ومعه كتب من الملك عبدالعزيز إلى الأهالي والأشراف والقبائل يدعوهم فيها إلى الدخول في طاعته ولهم الأمان؛ ولكنه وجد الحامية مستعدة للحصار والمقاومة، عند ذلك جاءه الأمر من الملك عبالعزيز بالحصار فقط وعدم مهاجمة المدينة المنورة تعظيما لحرمتها.
بدأ صالح بن عذل بحصار المدينة من الشمال لقطع الطريق بينها وبين شرق الأردن، ليمنع وصول المساعدات للحامية، وأخذ في مهاجمة القبائل الموالية للأشراف، واستطاع إخضاع قبائل شرق المدينة وشمالها، فأخذت تعلن الطاعة، وذهبت وفودها إلى مكة حيث قابلوا الملك عبدالعزيز وأعلنوا دخولهم تحت حكمه، وتعهدوا له بالسمع والطاعة، وعدم التعرض للحجاج وعابري السبيل ، ودفع الزكاة المفروضة عليهم؛ ومن هذه القبائل: قبيلة حرب وجهينة والرشايدة.
وبعد هذه الغارات على القبائل انتشر الأمن والاستقرار والسكينة في الحجاز عامة، وكان درسا للقبائل بأن السلام والأمن في عهد الملك عبدالعزيز خير من الفوضى التي شهدتها أيام الأشراف.
ثم انتشرت القوة السعودية حول المدينة المنورة مكتفية بالحصار فقط والانتظار حتى تستسلم الحامية.
وكان الملك عبدالعزيز يهدف من الحصار إلى المحافظة على حرمة المدينة المنورة فحرص على عدم القتال فيها أو الإصرار بأهلها؛ بل أمر قائده بحصارها فقط دون دخولها ولو فتحت أبوابها إلا بعد استئذان القيادة. ولم يكن موقفه هذا من ضعف عسكري أو تردد؛ بل على العكس من ذلك، فقد كان الموقف العسكري في صالحه؛ حيث تبلغ قواته أكثر من ألفين وخمسمائة مقاتل، وقوات الأشراف نحو أربعمائة جندي، وكان يتوقع أن تستسلم في أقل من عام، ولم يكن حصاره للمدينة حصارا شاملا .
مع بدء الحصار اهتم الشريف علي بسكة حديد الحجاز وعهد بحمايتها من معان إلى المدينة المنورة إلى اللواء عارف باشا الحسن، وأمره بإرسال قوة عسكرية إلى المدينة لمساعة حاميتها، فأرسل قوة عسكرية في قطارين إلى المدينة، ولم تكن قوة الملك عبدالعزيز المتمركزة على سكة الحديد تستطيع منعها؛ حيث تمكنت من دخول المدينة.
أقام صالح بن عذل بقوة كافية من جنده على سكة الحديد وخربها وقطع جميع المواصلات بين معان والمدينة المنورة، وبذلك أصبحت محاصرة من جميع الجهات.
وقرر الملك عبدالعزيز إرسال قوة أخرى تساعد على إحكام الحصار حول المدينة، فأرسل قائده إبراهيم النشمي، فسار برجاله ونزل في الجهة الشمالية من المدينة في منطقة العيون، وبقي صالح بن عذل في شرق المدينة، وبني الإخوان القصر في الجنوب، فاكتمل بذلك الحصار على المدينة المنورة.
عمل الملك عبدالعزيز على جعل قيادة الجيوش المحاصرة للمدينة بيد صالح بن عذل؛ لينظم عملها، ويشرف على تحركاتها، وكان على اتصال دائم ومستمر مع قادته، ففي 29 رجب 1343هـ أرسل رسالة إلى إبراهيم ا لنشمي يثني فيها عليه وعلى الأخبار التي يرسلها له "... طرف الأخبار: أحسنت الإفادة بارك الله فيك، وأخبارنا تسركم من جميع الوجوه .. ".
كما كان يوصيه بالكتابة إليه باستمرار وتعريفه له بالوضع العسكري وتحركاته:" ... مع السؤال عن حالكم أحوالنا الحمد لله جميلة، خطابك المكرم وصل، وما عرفت كان معلوم، أنت إن شاء الله دائم بأخباركم وفصل لنا لا تغفل عن شيء ومن قبل أخبارنا تسركم الحمد لله ...".
وكان الأمير عبدالعزيز بن مساعد يتابع تحركات الجيوش المحاصرة للمدينة، ويزودهم بما يحتاجون إليه من العتاد العسكري والمواد الغذائية، بعكس حامية المدينة التي كانت تتبع لأربعة حكام كل ينصرف على حدة، ولم يكونوا على اتفاق فيما بينهم، وكان الشريف علي يتبادل معهم المعلومات عن طريق اللاسلكي في جدة.
وكانت القوات السعودية في تزايد مستمر مع وصول الإمدادات لها من حائل وقرى القصيم ومن عسير، بعكس حامية المدينة التي كانت محاصرة، وقواتها في تناقص بسبب المجاعة التي كانت تعاني منها المدينة المنورة.
بدأت نتيجة الحصار تظهر على سكان المدينة المنورة؛ حيث بدأ الناس يخرجون إلى أطرافها، وكان رجال إبراهيم النشمي يعاملونهم معاملة حسنة ويرحبون بهم، ويقدمون لهم التمر وبعض الطعام، ثم يتوجهون إلى مخيم العرضي، ومنه إلى حيث يريدون إلى مكة أو إلى أي جهة أخرى.
ومع قدوم الحج أعلن الملك عبدالعزيز نداء للعالم الإسلامي في أوائل شهر شعبان 1343هـ/ مارس 1925م تعهدت فيه الحكومة السعودية بحماية الحجاج القادمين إلى الحجاز، وأن موانئ رابغ والليث والقنفذة مجهزة لاستقبال الحجاج، متوفر فيها كل ما يحتاج إليه الحجاج، وكانت آلاف الجمال تنتظرهم لتنقلهم إلى المدينة ثم إلى مكة والأمن عام في حلهم وترحالهم؛ إذ إن القوات العسكرية المحاصرة للمدينة ترحب بالحجاج وتسهل دخولهم إلى المدينة المنورة وخروجهم منها، وتقدم لهم ما يحتاجون إليه.
لما انقضى الحج وطال حصار المدينة ووجد الملك عبدالعزيز أن أمر المدينة سوف يطول دون تدبير محكم يساعد على حصارها، بعث قوة عسكرية إضافية تساعد على حصارها وتمنع وصول الغذاء إلى حاميتها.
ولم يكن الهدف من هذا الحصار الذي طال أمره إرهاق الناس وإهلاكهم؛ ولكن استسلام الحامية وضم المدينة لتتوحد ضمن مدن الحجاز المنضمة إلى حكم الملك عبدالعزيز دون قتال، ولم يكن هناك حاجة لاقتحامها أو قتل الناس؛ بل إنه كان حريصا على سلامة السكان وعلى عدم القتال فيها والاكتفاء بالحصار فقط حتى تستسلم؛ مراعاة لحرمتها ومكانتها ، وأعلن الملك عبدالعزيز عن سياسته تلك في 18 ذي الحجة 1343هـ/ 10 يوليو 1925م :" ... إن المدينة المنورة لا تزال حرما آمنا لا يصلح أن يحدث فيه حدث؛ من قتل، أو سلب، أو نهب، وصونا لشرفها اكتفيت بحصاره وقوته ".
ب- سير العمليات الحربية في أطراف المدينة المنورة:
استمر حصار القوات السعودية للحامية في المدينة المنورة دون قتال، فعمل الملك عبدالعزيز على إرسال الجيوش والسرايا في الجهات الشمالية والشمالية الغربية من الحجاز ليضغط على حامية المدينة حتى تستسلم.
فبعث سرية بقيادة عمر بن ربيعان انطلقت إلى جبهة ينبع لتأديب بعض القبائل التي اعتدت على القوافل الآتية من تلك الجهات.
وتمكنت سرية من التصدي لقوة من قوات الأشراف في وادي الفرع؛ حيث قتلت ( 95) جنديا ، وغنمت غنائم كبيرة.
بقي جيش الأمير سعود بن عبدالعزيز بعد خروج الحسين من العقبة مرابطا في ينبع النخل، وأخذ يهاجم القبائل التي تعتدي على القوافل التي تمر بها، والقبائل التي تعارض الحكم السعودي، وأخذت تحركاته تعطي ثمارها؛ حيث قدمت القبائل إليه معلنة طاعتها ودخولها في نفوذ الحكم السعودي، فاشترط عليهم أن يشتركوا في الجيش المحاصر للمدينة المنورة تحت إمرة إبراهيم النشمي؛ ليثبتوا ولاءهم وطاعتهم للقيادة السعودية.
في صباح 23 محرم 1344هـ/ 13 أغسطس 1925م هاجمت القوات السعودية مخفر العيارية بجوار المدينة، فقابلهم الجند فهزموهم ، ثم أعادوا الهجوم مرة أخرى من جهة جبل سلع جانب المدينة الغربي وانهزموا؛ بعد أن فقدوا 100 قتيل، بسبب المدافع التي كانت مع الحامية، ثم بادرت المدفعية بتصويب قذائفها على نزلة دغيمان فهدمت البيوت، وأرسلت الحامية فرقة بعد الغروب فقصدت البيوت التي في قباء ونسفتها بالديناميت، ثم أعادت القوات السعودية الهجوم مرة أخرى بعد يومين في 25 محرم 1344هـ/ الموافق 15 أغسطس 1925م هو ومن معه من أهل قباء فانهزموا.
بعث الملك فؤاد – ملك مصر – برقية إلى الملك عبدالعزيز في 21 صفر 1344هـ/ 30 أغسطس 1925م قال فيها :" إن الحرب القائمة حول المدينة المنورة قد أقلقت خواطر المسلمين قاطبة؛ لما عساه يحدث من تأثيرها في الأماكن النبوية المقدسة التي نجلها جميعا، ونحافظ على آثارها الكريمة، ولا يخفى على عظمتكم ما لهذه الأماكن من الحُرمة التي توجب أن تكون بعيدة عن كل أذى .
ولكن ما نعتقده في شديد غيرتكم الدينية لما يطمئن قلوبنا والمسلمين عامة على صيانة الحرم النبوي الشريف وآثار السلف الصالح بالمدينة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته" . ا لملك فؤاد.
فرد الملك عبدالعزيز على الملك فؤاد ببرقية بتاريخ 26 صفر 1344هـ/ 15 سبتمبر 1925م قائلا:" حضرة صاحب الجلالة ملك مصر العظيم الملك فؤاد دامت معاليه، إني أشكركم من صميم فؤادي على غيرتكم الدينية، وإني أقدر ما شرحتموه في برقيتكم حق قدره".
كان الملك عبدالعزيز واثقا من قواته ومن أوامره الصريحة لهم بعدم دخول المدينة . فما كان من إيران إلا أن أرسلت وفدا للتأكد من صحة ما أشيع من ضرب القبة الخضراء بالقنابل، وكان الوفد مؤلفا من سفير إيران في مصر وقنصل إيران في سوريا؛ حيث استقبله الملك عبدالعزيز في بحره، وبحث معهم أمر الحجاز وأمنه، ثم سافر الوفد إلى مكة بعد ذلك واتصل بكثير من الإيرانيين المجاوريين حول الحرم، وتبين منهم الحقائق، وسافر قنصل إيران لدى سوريا إلى المدينة مساء الأربعاء 17 ربيع الآخر 1344هـ/ 4 نوفمبر 1925م ليقف على حقيقة الموقف.
وقد جاء أيضا وفد جماعة الخلافة الهندية إلى المدينة المنورة لمعرفة ما نشره الشريف علي حول القتال في المدينة، فلم يسمح لهم الشريف شحات بالدخول بحجة عدم حملهم تصاريح دخول المدينة من قبل حكومته في جدة؛ لكن السبب الحقيقي لذلك كان تعاطف جماعة الخلافة الهندية مع الملك عبدالعزيز وموقفها الرافض للشريف حسين وأبنائه.
كان الملك علي يرمي من ذلك إلى وصول وفد هندي آخر متعاطف معه ويستطيع من خلاله تأكيد ما يبثه من أخبار.
وهذا يثبت تضارب الشريف علي في جدة ورغبته في عدم إظهار الحقيقة؛ حيث كان يسأل الحجاج عن انتمائهم وولائهم، فمن كان معه سمح له بدخول المدينة، ومن كان ضده منعه من دخولها؛ لكيلا يكشف ادعاءاته، بعكس الملك عبدالعزيز الذي سمح لجميع الحجاج والوفود بالحج وزيارة المدينة.
أعلنت وكالة رويتر في 20 صفر 1344هـ/ 9 سبتمبر 1925م أن الحقيقة هي أن الحامية التي في القلعة هي التي تطلق النار على القوات السعودية التي في ضواحي المدينة.
فأمر الملك عبدالعزيز فيصل الدويش بالانسحاب من العوالي إلى قباء، وجاء مكانه عبدالمحسن الفرم ليحول بينه وبين الحامية.
فما كان من الملك عبدالعزيز إلا أن أرسل أوامره متتابعة إلى قادته المحاصرين للمدينينة يحذرهم من أي عمل عسكري حولها، والاكتفاء بالحصار فقط دون إراقة دماء.
ج- تسليم حامية المدينة المنورة للأمير محمد بن عبدالعزيز:
بعد مررو عشرة أشهر على حصار المدينة المنورة بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق؛ حيث أصبح أهل المدينة يخرجون جماعات تقدر بـ (150) رجلا كل يوم من شدة ما يعانونه من الجوع والضيق، فيتجهون إلى قوات إبراهيم النشمي في منطقة العيون، فيكرمهم ويعطيهم ما يحتاجون إليه، ثم ييسر طريقهم بما يقدر عليه ويسمح لهم بالذهاب إلى مكة أو ينبع أو أي جهة يشاؤون، وكان أسعدهم حالا من توجه إلى مكة .
ضاق الحال بأهل المدينة من شدة الحصار وطوله، وضعف الحامية أمام القوات السعودية، وعجزها عن فك الحصار عنهم؛ بل عملت على فرض الضرائب ومصادرة أملاكهم عند مغادرتهم ، مما دفعهم إلى الطلب من الملك عبدالعزيز الهجوم على المدينة وتخليصهم من جيش الأشراف المحصار فيها.
زاد في حرج الحامية العسكرية رجوع الجنود الذين جاؤوا من فلسطين وسوريا وشرق الأردن إلى بلدانهم بسبب الحصار والقحط الذي أصاب الميدنة، وعدم تسلمهم لمرتباتهم منذ عدة أشهر، وقلة الطعام.
لم يكن في وسع الشريف علي في جدة مساعدتهم؛ حيث إنه في ضيق شديد، وقد شح ما له بعد سفر أبيه من العقبة إلى قبرص، وهو ما جعله يفرض ضرائب على تجار جدة ليتمكن من الصمكود ومقاومة القوات السعودية المحاصرة له.
ومع اشتداد الحصار على حامية المدينة، وعدم وصول المساعدات إليهم من الشريف علي، ووصول أخبار الانتصارات التي كانت تحققها الجيوش السعودية المنتشرة في الحجاز، جعل صبر الحامية ينفد، مما دفع الشريف شحات إلى الاجتماع مع بعض أهل المدينة والتشاور معهم في تسليمه المدينة للملك عبدالعزيز ، فقرروا إرسال رسالة بهذا الخصوص مع أحد تجار المدينة يسمى مصطفى عبدالعال، فخرج إلى المدينة المنورة إلى مخيم إبراهيم النشمي الذي استقبله ثم أرسله إلى الملك عبدالعزيز في بحره منتصف ربيع الآخر 1344هـ/ نوفمبر 1925م ومع كتاب أهل المدينة المنورة متضمنا طلبهم تسلمها بشرط تأمينهم على أموالهم وأرواحهم.
عمل وكيل إمارة المدينة الشريف أحمد بن منصور وقائد المدينة عبدالمجيد بالضغط على ا لشريف شحات وأجبراه على كتابة كتاب يكذب فيه إرسال مصطفى عبدالعال، وأرسلاه إلى إبراهيم النشمي والأمير محمد بن عبدالعزيز.
عند ذلك أمر الملك عبدالعزيز ابنه الأمير محمداً بتشديد الحصار حول المدينة، وإيقاف نشاط السابلة، ومنع عمليات البيع والشراء في معسكرات القوات المرابطة حولها، واختيار الموقع الجيد للجيش؛ بحيث يكون بعيدا من أسوار المدينة.
واشتد الأمر على قادة الحامية، ولم تصل الطائرة التي وعدهم بها الشريف علي، وبدأ الانهيار والضعف بين رجال الحامية وقادتها؛ حيث أخبروا الشريف عليا في 10 جمادي الأولى 1344هـ/ 27 نوفمبر 1925م أنه ليس لديهم أرزاق إلا لثلاثة أيام، وأن القوات السعودية في ازدياد، وبدأت تضيق عليهم وتشد من الحصار المفروض، وحذوره من أنهم سوف يفاوضون الأمير محمداً في حال عدم وصول الطائرة بعد ثلاثة أيام.
في صباح السبت 19 جمادي الأولى 1344هـ/ 5 ديسمبر 1925م دخل الأمير ناصر بن سعود وعزت قائدة الخطة وعبدالله الفضل إلى المدينة مع فريق من الجنود، فاستلموا قلعة سلع وما فيها من ذخائر وعتاد، ووضعوا فيها قوة عسكرية، ثم تسلموا جميع المواقع العسكرية والمواقع الحكومية حتى الإمارة نفسها، ووضعوا في كل منها قوة من الجيش السعودي.
توجه الأمير ناصر بن سعود وعدد من رجاله مع عبدالمجيد باشا إلى الإمارة، وكتبت وثيقة الصلح كتبها عبدالله القين وصالح رفة.
وفي يوم 20 جمادي الأولى / 6 ديسمبر توجه وفد من أهل المدينة إلى مخيم الأمير محمد، مكون من: عزت باشا وحسن عجب وذياب ناصر ويوسف حوالة وعباس قمقمجي وقاسم ديري وزين العابدين مدني.
وتحرك الأمير محمد بجنوده مع وفد من أهل المدينة ، فوصل إلى دائرة البرق، فاستقبله وفد آخر من أهل المدينة خاج السور؛ وهم: عبدالقادر حافظ وسعود دشيشه ومحمد حسن سمان وعبدالله جعفر، ثم سار هو ومن معه إلى باب السور؛ حيث استقبله عنده الشريفان أحمد بن منصور وشحات، فسلموا عليه وأعلنوا له ولوالده الملك عبدالعزيز الطاعة.
واستبشر الناس بالحكم الجديد، وانفرجت الأزمة، وعادوا إلى مزاولة أعمالهم في هدوء وسكينة، وفتحت الأسواق، وأخذ المقيمون في العرضي يعودون إلى منازلهم في المدينة، وبقي الآخرون ينتظرون إلى اليوم الآتي، ويحملون ما معهم من الأثاث اليسير والأرزاق التي اشتروها لبيوتهم في المدينة.
وهكذا استطاع الملك عبدالعزيز ضم المدينة المنورة إلى نفوذه دون قتال بعد حصار دام قرابة السنة مع أن لديه قوة كافية لاقتحامها؛ ولكنه فضل طول الحصار مع ما في ذلك من خسائر مالية ومعنوية .