
ابن سينا: المعلم الثالث للإنسانية.
رائد من رواد الفكر الإنساني، والمعلم الثالث للإنسانية، بعد أرسطو والفارابي ، وهو أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا، ولد في بخارى سنة 317 هـ (980م) . في فترة تعتبرمن أزهرى عصور الحضارة العلمية الإسلامية، سطع في سمائها ابن سينا، وابن الهيثم، والبيروني. درس الطبيعيات والإلهيات، وقرأ كتب أرسطو وأفلاطون، واشتهر بالطب والفلسفة، كما عنى بالرياضيات والفلك، فهو الطبيب الفيلسوف والرياضي الفلكي . بدأ يصنف الكتب وهو في الحادية والعشرين من عمره، وكان يعالج المرضى، دون أجر، واكتسب شهرة يذبها أهل زمانه، حتى لقب بالشيخ الرئيس.
أتاح لنا أن نقرأ كتابه " القانون في الطب" وخاصة الجزء الذي درس فيه النباتات الطبية، وطاب لنا أيضا قراءة كتابه الشفاء فيما يختص بالطبيعيات والمعادن والنبات والحيوان، فإذا به المجلى في هذه الفنون جميعا، أنها السلامة في العرض والسلامة في الأسلوب . والوضوح في البيان، مع الدقة العلمية التي تنتزع التقدير والإعجاب . وقد خرجنا من قراءاتنا لبعض أعمال ابن سينا، أتى أمام عبقرية نادرة ظاهرة فكرية ربما لا تجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي " وعذرت الذين آمنوا به إيمانا مطلقا، حتى أنهم إذا وجدوا حقائق مغايرة لما قاله ابن سينا ، لم ينسبوا الخطأ لابن سينا، ولكن قالوا: إن ذلك من أغاليط النساخ " أو أن الطبيعة حادث عن مجراها".
ولسنا ندري كيف اتفق لابن سينا أن ينتج هذا الإنتاج الضخم، حتى أنه لم يكتب كتبه التي بلغت ستاً وسبعين ومائتين، لم يكتبها في بلد واحد، ولا فترة متصلة، ولا في دولة واحدة، إذ كان يحرر رسائله الصغيرة في أثناء رحلاته وأسفاره، على الرغم مما كان يحيط به من مشاكل ومشاغل، وما يعترى حياته من متاعب ومصاعب.
ويعتبر كتابه القانون في الطب من خير ما تتيه به الحضارة العلمية العربية في هذا الفن، وقد فضلته العرب على ما سبقه من مؤلفات لما وجدوا فيه من حسب التبويب والدقة العلمية، مع ما تميز به من الإشارة إلى خبرة مؤلفه وتجاربه، وقد تناول فيه علوم وظائف الأعضاء، وعلم الأمراض وعلم الصحة، ومعالجة الأمراض، وعلم الأدوية.
وقد ترجم كتابه " القانون" إلى اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية ، وطبع في أوروبا خمس عشرة مرة. وكان العمدة في دراسة الطب في الجامعات الأوروبية حتى منتصف القرن السابع عشر.
ويقع كتابه " الشفاء" في ثمانية وعشرين مجلدا، ويحتوي على فصول في المنطق والطبيعيات والفلسفة. وقد ترجم كذلك إلى اللاتينية واللغات الأوروبية له وله مؤلفات ورسائل أخرى في الطب والفلسفة والموسيقى، واللغات والإلهيات والنفس والطبيعيات والرياضيات والفلك، والأرصاد والأجرام السماوية، ومختصر إقليدس والأريتماطيقي . وقد ترجمت هذه المؤلفات إلى اللاتينية وسائر اللغات الأوروبية من إنجليزية وفرنسية وألمانية وروسية، وبقيت عدة قرون مرجعا لهذه الدراسات.
ويهمنا أن نعرض في هذا الحديث لبعض أعماله العلمية، أما أعماله الفلسفية المنطقية واللغوية، فإنها خارجة عن نطاق هذا الحديث. يقول في تكوين الجبال، الغالب أنها تكونت من طين لزج، جف على طول الزمان، تحجر في مدد لا تضبط، فيشبه أن تكون هذه المعمورة كانت في سالف الأيام غير معمورة، بل مغمورة في البحار، فتحجرت، في مدد لا تفي التاريخات بحفظ أطرافها، وكثيراً ما يوجد في الأحجار إذا كسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها. ويقول في الزلازل: حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك، ثم يحرك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، يحرك الأرض، وهو إما جسم بخاري دخاني قوى الإندفاع. وأما جسم مائي سيال، وأما جسم هوائي، وأما جسم ناري، وإما جسم أرضي. والجسم الناري، لا يكون نادراً صرفة وفي حكم الرياح المشتعلة. ويقول ومن الدليل بأن أكثر أسباب الزلزلة هي الرياح المختقنة، أن البلاد التي تكثر فيها الزلزلة إذا حفرت فيها آبار كثيرة حتى كثرت مخالص الرياح والأبخرة، قلت الزلازل بها. وأكثر ما تكون الزلازل في بلاد متخلخلة غور الأرض، متكافئة وجهها، أو مغمورة الوجه بماء يجري أو ماء غمر كثير، لا يقدر الريح على خرقه، ومن منافع الزلازل تفتح مسام الأرض للعيون، وإشعار قلوب الناس رعب الله تعالى.
وتحدث عن سرعة الصوت وسرعة الضوء. فقال إن البصر يسبق السمع فإنه إذا اتفق أن قرع إنسان من بعد جسماً على جسم رأيت القرع، قبل أن تسمع الصوت ، لأن الإبصار ليس له زمان والاستماع يحتاج إلى آن، ويتأدى تموج الهواء الكائن إلى السمع، وذلك في زمان.
وقد توفي الشيخ بعد حياة حافلة (سنة 428هـ / 1036م) في همدان .
ولا شك أن أمثال ابن سينا إنما هم قلة نادرة، يجود بها الزمان على الإنسانية على فترات تمتد أجيالاً متعاقبة. إنما هم رسل فكر يهدون الناس إلى ينابيع الحكمة والعلم والفلسفة، ويكونون مثلا تحتذى، مهما مر الزمان وتعاقبت الأجيال.