أغراض ابن الرومي الشعرية

أغراض ابن الرومي الشعرية

0 reviews

شاعرية ابن الرومي تختلف عن شاعرية من عداه من شعراء العرب، في أنه كان لا يعير الصياغة اللفظية، والأسلوب التعبيري، الإهتمام الذي كان يغيره للعمل العقلي، وللمعنى العميق الدقيق. ومن هنا أنه ضحى بالإجادة البيانية في كثير من الأحيان، في سبيل استكمال الصورة التي يصف، أو الشعور الذي يتم شعره عنه، أو العاطفة التي تفعهم فؤاده.

وإنك ، عبثاً، تبحث عن موضوع يتميز به شعر ابن الرومي، فالحيرة تقف أمام مقدرتك على التمييز، لأن " ابن الرومي - كما قال شفيق النقاش - قد أجاد الوصف والتصوير إجادة لم يسبقه إليها شاعر، وبرع في الهجاء، حتى عد سيد شعرائه في الأدب العربي، ورثى أبناءه وغير أبنائه رثاءً يصور أعمق آلام النفس وأصدقها، وكان أقدر شعراء عصره على العتاب بأسلوب ناعم عميق، ولعلنا لا نجد شاعراً في الأدب العربي يثبت أمامه في التحليل النفسي وتصوير المجتمع.

وإذا كانت هناك فنونٌ لم يبلغ فيها شأو الشعراء، كالمدح والخمريات والفخر، فإن طبيعته لم تكن تساعد على ذلك. ولقد تعرض ابن الرومي لموضوعاتٍ ليست جديدة في الأدب العربي، ولكنه أفاض فيها ووسع معانيها وطورها . فهو أول شاعر تبسط في وصف الحياة والناس. وأول شاعر تحدث بالتفصيل عن أنواع الفواكه، فوصف العنب والمشمش والرمان. وأول شاعر تناول المآكل بالتفصيل، فوصف السمك والبيض والدجاج والفالوذج والقطايف والزلابية، وأول شاعر تغلغل في طبقات المجتمع وأوصناف الناس، فصور الأحدب والأصلع والثقيل والمتكبر وصاحب الوجه الطويل، واللحية الكثة، والأنف الضخم، والخباز، وقالي الزلابية، والأغنياء المزيفين، ومحدثي النعمة الجهلة. وأول شاعر أنطق الأزهار والأثمار، وجسمها، وعبر عن كل شكل من أشكال الطبيعة، وكل حركة تمور فيها".

وإذن، فابن الرومي شاعر مجدد، بكل ما في التجديد من معنى؛ لقد انطلقت شاعريته في الآفاق التي أحبتها، لم تقيد نفسها بأغراض رتيبةٍ تعاهدها الشعراء، فما حادوا عن سبيلها، ولا وجدوا لأنفسهم منها فكاكاً.

المدح في شعر ابن الرومي:

من الطبيعي أن يمتدح الشاعر كبراء الناس، وفضلاءهم،  وأمراءهم، وأن يتودد إلى خلفائهم وولائهم، إذ كان يعيش في عصر لا تقوم له فيه قائمة ما لم يكن مقربا من أولياء الأمور. إلا أن ابن الرومي عاش طوال عهود ثمانية من الخلفاء هم :" الواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد، والمعتضد"، ولكننا لم نقرأ له مديحاً لغير المتوكل؛ ومع هذا فقد عجز عن أن يصيب مكانة في نفس الخليفة وسائر الولاة والأمراء لأنه كان غريب الأطوار من ناحية، ومجلبة للنحس، على ما كان يظن هو نفسه، ويظن به معاصروه، من ناحية ثانية. وهو يقول في إساءة الممدوحين معاملته، وفي ردهم قصائده إليه لأنها غير صالحة، أو في تمنعهم عن بذل العطايا له:

قد بلينا في دهرنا بملوكٍ        ***    أدباءٍ علمتهم، شعراء، 

إن أجدنا في مدحهم، حسدونا   ***    فحرمنا منهم ثواب الثناء

أو أسأنا في مدحهم، أنبونا      ***    وهجو شعرنا أشد الهجاء 

ولكن لابن الرومي رغم ذلك، مديحاً جميلاً موجهاً إلى بعض سراة المجتمع، ومنهم آل طاهر، وآل وهب ووزيرهم القاسم بن عبيدالله بن سليمان بن وهب (الذي دس عليه السم فمات به)، وأبو القاسم الشطرنجي وإسماعيل بن بلبل، وزير المعتضد وسواهم.

فمن قوله في مدح القاسم بن عبيدالله، وزير المعتضد:

أيها " القاسم " القسيمُ رواءً      ***  والذي ضم وده الأهواء

والذي ساد، غير مستنكر السؤ  ***   دد في الناس، واعتلى كيف شاء

فمر نجتليه ملء عيونٍ           ***   وصدورٍ، براعةً وضياء

لم يزل يجعل المساء صباحاً     ***    كلما بدل الصباح مساء 

بشرٍ البرق بالحيا، وسنا الصبــ  *** ـحٍ بأن يقلب الدُّجى أضواء

كل شيء، أراه منك، بشير      *** صدق الله هذه البشراء 

وإذا ما كان مخابر الناس غابت *** عنك، فاستشهد الوجوه الوضاء

ومن قول ابن الرومي في مدح أبي القاسم التوزي الشطرنجي، بعد معاتبة ساقها إليه:

يا أخي، يا أخا الدَّماثة والِّرقَّـــ *** ــةِ والظرف والحِجي والدَّهاء 

أترى الضربة التي هي غيبٌ *** خلف خمسين ضربةً في وحاء

ثاقب الرأي، نافذ الفكر فيها،  *** غير ذي فترةٍ، ولا إبطاء

ربما هالني، وحير عقلي   *** أخذك اللاعبين بالبأساء

واحتراسُ الدهاة منك وإعــ *** ــصافُك بالأقوياء والضعفاء

عن تدابيرك اللطاف اللواتي *** هن أخفى من مُستسر الهباء

فإخالُ الذي تديرُ على القو   *** م حُروباً دوائر الأرحاء

وأظن افتراسك القرن بالقِرْ  *** نْ منايا وشيكة الإرداء 

وأرى أن رُقعة الأدم الأحــ  *** ــمــر أرضٌ عللتها بدماء 

العتاب في شعر ابن الرومي:

وكثيراً ما تقع في مدائح الشاعر على كلام ينطوي على التهديد والتأنيب حيناً، وحيناً آخر على العتاب والتودد. قال مخاطباً أبا الفضل:

أبا الفضل، لا تحتجِبْ . إنني ***     صفوحٌ عن المُخلف الوعد، عاف

مدحتك مدح امرئ واثقٍ     ***    ومولى ومولٍ، وخل مصاف 

وكافأتني بازوارٍ يفو         ***    قُ كل ازورارٍ، وكل انحراف

وماطلتني، ثم راوغتني      ***     فكدرت من ودنا كل صاف،

عليك السلامُ، ولولا الإخا    ***      ءُ لجاءتك بعد قوافٍ ، قواف

وغالباً ما تطالع في عتابه لإخوانه لونا من المودة التي تفعم قلبه، فإذا هو عاتب جيداً، فلأنه يحب جيداً:

أنت عيني، وليس من حق عيني *** غض أجفانها على الأقذاء

لا أجازيك من غرورك إيا       *** ي غروراً، وقُيت سوء الجزاء

ويعمد الشاعر إلى عتابٍ موجه للناس وللدهرن وهو من نوع يختلف عن عتاب الممدوحين الذين بخلوا عليه بالهدايا والعطايا، لأن هذا العتاب الأخير مُشبع بروح التأنيب والثورة والعنف، أما عتابه للناس وللدهر، بعد أن فقد الشباب والأهل والمال ونضارة الحياة، فهو مفعهم بالحزن والألم، ومبرهن على ضعف الإنسان أمام صروف زمانه. وفي هذا يقول ابن الرومي:

أيها الحاسدي على محبتي العسر   *** وذمي الزمان والإخوانا

ليت شعري، ماذا حسدت عليه   *** أيها الظالمي إخائي عيانا،

أعلى أنني ظمئت وأضحى    *** كل من كان صادياً، ريانا

أم على أنني مشيت حسيراً   *** وأرى الناس كلهم ركبانا

أم على أنني ثكلت شقيقي   *** وعدمت الثراء والأوطانا ؟!

الغزل في شعر ابن الرومي:

ولقد تناثرت أبيات ابن الرومي الغزلية في العديد من قصائده، بحيث أنه لم يفرد لها بابا خاصا، ولم يولها العناية التي تستحقها؛ وهكذا جاءت غزلياته، بمعظمها، مطالع يتكئ عليها للنفاذ إلى غرضه الحقيقي الذي خص به القصيدة،  وهو يقول في ذلك:

ألم تر أنني، قبل الأهاجي    ***  أقدم في أوائلها النسيبا

لتخرق في المسامع، ثم يتلو  *** هجائي محرقاً، يكوي القلوبا

وبعض غزل ابن الرومي يتصف بالواقعية المادية، وبالإغراق في طلب اللذائذ والشهوات؛ فلا تحس فيه حرارة الشوق، وتحرق الوجدان، بمقدار ما تجد في ثناياه وصفا حسيا ماديا، لا يتعدى المظهر إلى الجوهر؛ وهذا مايفسر لنا ظاهرة تعدد " معشوقات" ابن الرومي، إذا صح أن من نظم فيهن الشعر هن معشوقاتت له، فهو في تنقل دائب، يستطيب الهوى حيث يراه، ثم لا يلبث أن يبارحه إلى هوى آخر يعرض له في مقام جديد.

ومن روائع غزلياته قوله:

وحديثها السحر الحلال، لو أنه    *** لم يجن قتل المسلم المتحرز 

إن طال لم يملل، وإن هي أوجزت *** ود المحدث أنها لم توجز

من أقواله في طيب العناق بين الحبيبين:

أعانقها، والنفس بعد مشوقة   *** إليها، وهل بعد العناق تداني

وألثم فاها كي تموت حرارتي *** فيشتد ما ألقى من الهيمان 

وكثيرا ما وردت هذه المعاني عن عناق المحبين، في شعر الشعراء . فمن ذلك قول أحمد بن يحيى بن أبي فنن:

خلوت فنادمتها ساعةً   *** على مثلها يحسد الحاسد

كأنا وثوب الدجى مسبل *** علينا، لمبصرنا واحد

المآكل في شعر ابن الرومي:

لا تقع في الشعر العربي، ولا في الشعر العالمي، إجمالاً، على مثل ما تقع عليه في شعر ابن الرومي، من أوصاف دقيقة تتناول صنوف المآكل، وضروب الطعام والشراب، حتى ليمكنك، إن شئت، إفراد جزء من ديوان الشاعر لهذا الغرض؛ ولم تأت أوصاف ابن الرومي، في هذا المجال، بالعبارات الرتيبة، أو الألفاظ العادية المألوفة، وإنما ترتقي لغة الأطعمة والأشربة لديه من مستوى حديث الطاهي والساقي، إلى مستوى حديث الفنان المبدع المجدد.

وإذا كان في تكوين ابن الرومي الجسدي ما يحمله على طلب المزيد من الملذات، وفي طليعتها ملذة الأكل، فقد كان في تكوينه النفسي، وفي معاناته للحرمان، ونوئه تحت عبء الحاجة والفقر والجوع، ما يدفعه دفعا إلى المبالغة في الإقبال على صنوف الحلوى، والفاكهة، والشراب، وإلى وصف الخباز وبائع الزلابية ومن إليهما.

ولعل وفاة ابن الرومي بالخشكنانجة المسمومة التي دسها عليه الوزير أبو الحسين القاسم بن عبيدالله بن سليمان بن وهب، على يد ابن فراش، خير دليل على مدى تعلق ابن الرومي، الإنسان والفنان، بصنوف الأطعمة، حتى ليمكننا اعتبار الشاعر، شهيد بطنته التي ذهبت بفطنته، فأوردته مورد الهلكة !

وأول ما يطالعنا من شعر ابن الرومي، في هذا الصدد، حديثه عن الخمرة التي يبدو أن تحلله الديني، وتخففه من أحكام الشريعة، جعلاه يسيغ لنفسه شربها، والتعلق بها، والمجاهرة في وصفها، شأنه في ذلك شأن أبي نواس.

خمرة ابن الرومي هي الخمرة المضيئة في ظلمات الليالي، وفي ظلمات النفوس على حد سواء:

تلك التي ما بايتت راهباً   ***  إلا جفا قنديله الراهب 

مغلوبة  في الدن، مسلوبة، ***  لها انتصار غالب سالب 

وخمرة ابن الرومي وثن يصلي أمامه وثنيون، فكأنها النار تزمزم الصابئة أمامها، وهي تتأجج في بيت النار:

أقامت ببيت النار تسعين حجة  *** وعشرا يصلى حولها ويزمزم

ومن الواضح أن الصورة التي يقدمها الشاعر عن رغيف الخبز، ولعله الخبز المرقوق، لا الخبز الذي تنتجه الأفران الحديثة، هي صورة عظيمة الدقة، فضلا عن البراعة في عقد التشبيه بين استدارة الكرة المعجونة شيئا فشيئاً في يد الخباز، وإتساع الدائرة التي يحدثها الحجر، إذ يرمى به ، فوق صفحة الماء:

ما أنس، لا أنس خبازاً مررت به  *** يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر

ما بين رؤيتها في كفه كرة،       ***  وبين رؤيتها قوراء كالقمر

إلا بمقدار ما تنداحُ دائرةٌ         ***  في صفحة الماء، يرمى فيه بالحجر !

كذلك، يعجب ابن الرومي بالزلابية، وهي من الحلويات المستطابة، فينقل إعجابه إلى قالي الزلابية، المتعب الذي يفتديه ابن الرومي بروحه، لأن زلابيته رقيقة كالقشرة، مجوفة كالقصبة، ولأن الزيت الذي تقلى فيه الزلابية هو كحجر الكيمياء الفلسفي الذي لبث بعض العلماء يعتقدون بأنه يحول المعادن إلى ذهب، حتى ثبت لهم، في النهاية، بطلان هذا المعتقد. ذلك أن الزلابية، قبل أن تقلى، هي عجين أبيض كالفضة، فإذا قليت في الزيت، غدا لونها أصفر ذهبياً، وفي ذلك يقول ابن الرومي:

ومستقر على كرسيه، تعب،   *** روحي الفداء له من منصب تعب

رأيته سحراً يقلي زلابية      ***  في رقة القشر، والتجويف كالقصب

كأنما زيته المقلي حين بدا،   ***  كالكيمياء التي قالوا، ولم تصب

يلقي العجين لجينا من أنامله  ***  فيستحيل سبابيكا من الذهب

وثمة مواضيع كثيرة باقية، يضيق المقام عن الخوض فيها، ولكنها تشهد جيمعا لابن الرومي بأنه انفرد عن شعراء عصره، لا بالغربة النفسية وحدها، بل بالتجديد في الحديث على موضوعات كانت غير جديرة باهتمام الشعر والشعراء، في عصره. وحسبه أنه عاش حياته كشاعر فنان، وأنه نظم الشعر على هواه، فكان هذا الشعر، كما وصفه ابن الرومي:

شعري شعر إذا تأمله        ***  الإنسان ذو الفهم والحجى عبده 

لكنه ليس منطقا بعث         ***   الله به آية لمن جحده 

ولا أنا المفهم البهائم والطير ***  سليمان قاهر المرده

ما بلغت بي الخطوب من     ***  تفهم عنه الكلاب والقرده ! 

وعلى ما في هذه الأبيات من مبالغة، ومن تعريض بمن لا يفهمون شعره، حتى أدرجهم في عداد البهائم والطيور، والكلاب والقرده، فإنها رجع صدى صادق لما كان عليه الشاعر من المزاج الغريب، والغربة النفسية ! 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

219

followings

587

followings

6653

similar articles